ماذا بعد “اغتيال” قائد مجموعة “فاغنر” الروسية؟

تحطّمت الطائرة الخاصة التي كانت تُقلّ قائد مجموعة “فاغنر” الروسية يفغيني بريغوجين، وآخرين. تحطّمت الطائرة ومعها أسرار الانقلاب الذي قاده زعيم المجموعة على الكرملين، فتخلّص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من صديقه الذي وصفه بالموهوب ونائبه دميتري أوتكين، في عملية وصفها المراقبون بأنّها “نظيفة”، حيث دعا الرئيس إلى فتح تحقيق قال إنّه سوف يطول بعض الوقت!

قُتل “طبّاخ” الرئيس وصديقه، وما زالت التحقيقات جارية بخصوص الانفجار الذي تسبّب بإسقاط الطائره وأودى بحياة بريغوجين، ولكن ما لا يمكن أن نختلف عليه هو أهداف ميليشيا “فاغنر” والعمليات التي قامت بها وما زالت في كل قارات العالم، فقد كانت يد الكرملين القوية التي يبطش بها خصومه، ونجحت المجموعة في القيام بالعديد من المهام العسكرية في العديد من العواصم العربية وغير العربية، بهدف الحصول على المال وبهدف خدمة مصالح روسيا العليا من قبل.

مات أم قُتل يفغيني عمداً؟ مجرّد تساؤل يطرحه البعض من ترف الحديث، ولكن السؤال الذي يجب الإجابة عنه، ما هو خطر هذه الميليشيا على الأمن والسلم الدوليين؟ فالعمليات التي قامت بها هذه المجموعة لا تختلف كثيراً عن العمليات التي تقوم بها جماعات العنف والتطرّف المؤدلجة عابرة الحدود والقارات، فكل منهما يُقاتل من أجل الغير وعلى سبيل الاسترزاق!

ذاقت روسيا من الكأس نفسه عندما أعلن يفغيني تمرّده العسكري، فلولا احتواء هذا التمرّد لأصبحت روسيا ساحة لحرب أهلية ما زالت تنهش في جسدها الهزيل بعد تفكّك امبراطوريتها العظمى، ولعلّ القدر كان يرسم خطوات السقوط الكبير للدولة الأهم التي قادت المعسكر الشرقي، من بين أنياب الفريسة التي كادت أن تلتهم آكليها، فنجت روسيا من بين أنياب التمرّد القاتل بل وقضت عليه.

مجموعة “فاغنر” لها نشاط عسكري في أغلب مناطق الصراع الملتهبة؛ مجموعاتها القتالية تعمل لصالح روسيا التي لها مطامع تُريد أن تحقّقها بخوض الحروب، كما أنّها لا تُريد أن تتورط أيضاً بشكل مباشر في هذه الحروب، فمن هنا نشأت المجموعة شبه العسكرية الخاصة كشركة معنية بتقديم خدمات عسكرية، وهذا ما يبدو في الظاهر لكنها في الحقيقة تعمل تحت أمرة القوات المسلحة الروسية.

أخفقت القوات الروسية في الحرب الأوكرانية أو لم تحقق ما كانت ترنو إليه، بينما تألّقت قوات “فاغنر” وحققت انتصارات هائلة على أرض الواقع، في أغلب المعارك التي خاضتها ضدّ الجيش الأوكراني؛ هذا النفوذ والانتصار الكبير والمستمر ربما أزعجا المؤسسة العسكرية التي كانت ترغب قي كسر شوكة المجموعة والمقاتلين معها، من خلال منع إمداد المؤن والسلاح عنهم بل وقتلهم! فكان يخرج يفغيني في كل مرّة يستغيث ويصف القوات الروسية بأنّها تتعمّد هزيمته وقتله، وأنّ ما يحدث لا يُفهم إلا في سياق واحد. كان يُهدّد قائد المجموعة شبه العسكرية بأنّ هدف قوات الأمن الروسية لن يتحقق.

في كل مرّة كان يُهدّد فيها يفغيني ويتوعد، كانت تشعر الاستخبارات الروسية أكثر بخطره بل وبتهديده لعرش المؤسسة العسكرية الرسمية في روسيا وقادتها الذين أحرجتهم “فاغنر” ومقاتلوها، حيث اعتقدت المؤسسة أو حاولت إقناع الرئيس بوتين بأنّ صديقة قد أُصيب بجنون العظمة، وأن لا علاج للمرض إلاّ بالتخلّص من الجسد الذي علق فيه، وربما زادت الرغبة أكثر عندما أعلن تمرّده على الرئيس نفسه ودعا إلى اقتحام روسيا في 23 و24 حزيران (يونيو) الماضي، وهنا كانت نهاية قائد المجموعة، الذي اغتيل مرتين، إحداهما عند اقتحام قصره ومحاولة تصويره على أنّه سفّاح ويحتفظ برؤوس خصومه حيث قام بتصفيتهم، داخل البيت الذي يملكه ومقتنيات غير مشروعة جاءت في سياق الإعلان عن الاقتحام.

بوتين الذي يسعى لعودة الإمبراطورية المفقودة لبلاده، لا بدّ من أن يكون مالكاً لكل زمام الأمور، ولن يرضى بوجود زعيم آخر على أراضي بلاده، فضلاً عن تنامي قوة يفغيني العسكرية بما كان يحقّقه، وهو ما دفع هذه المؤسسة لإقناع بوتين بالحدّ من هذه القوة الصاعدة، ومع الوقت كان القرار هو التخلّص من يفغيني شخصياً.

علّق الرئيس بوتين من خلال الناطق باسمه على انقلاب يفغيني قبل شهرين، بأنّ تمرّد مجموعة “فاغنر” بمثابة خيانة، مؤكّداً أنّ المتمردين سيُعاقبون حتماً، وهو نفس ما جاء في بيان نُسب إلى “فاغنر” عقب مقتل بريغوجين مباشرة، حيث وصف البيان مقتل قائد المجموعة بأنه خيانه عظمى؛ ومن هنا كانت التوقعات بتصفية قائد المجموعة، بعدما حاول بوتين في اجتماع استغرق ثلاث ساعات استبداله من قيادة المجموعة إلاّ أنّه فشل.

رجل الاستخبارات فلاديمير بوتين يُقسّم خصومه ما بين أعداء وخونة… الأعداء يسعى لإلحاق الهزيمة بهم، ولكن الخونة يرى ضرورة التخلّص منهم نهائياً، وفي هذه المساحة وضع بريغوجين، ولم يستغرق تنفيذ المهمّة سوى شهرين من الإعداد والتخطيط أعقبها التنفيذ مباشرة. الهدف بطبيعة الحال القضاء عليه والإبقاء على المجموعة وما حققته ولا تزال من إنجازات عسكرية لروسيا على أرض الواقع.

سوف تعزز روسيا من دور المجموعة شبه العسكرية بعد استبدال كل القيادات التي كانت موالية لبريغوجين، يتبع ذلك دور أكبر للمجموعة في أوكرانيا، ولكن على مراحل، حتى تعود الثقة بين المجموعة من جانب والقوات المسلحة الروسية من جانب آخر، كما أنّ روسيا سوف تقوم بتعزيز دور المجموعة في إفريقيا وتحديداً في دول الغرب والساحل والصحراء، من أجل مواجهة أكبر لأوروبا في القارة السمراء، بعدما أحرزت القارة العجوز تقدّماً على روسيا في معركتها في شرق القارة الأوروبية، وهنا سوف يبدو دور قوات “فاغنر” في شكلها الجديد بعد موت قائدها.

سوف يتمّ استبدال كل قيادات المجموعة بشكل تدريجي بقيادات شديدة الولاء لموسكو، ولكن بمرحلية لا تؤدي إلى إعادة الصدام، فروسيا حريصة على بقاء المجموعة من دون القيادات السابقة لها، كما أنّها حريصة على إعادة هيكلة عمل المجموعة، بحيث تُسيطر القوات المسلحة الروسية عليها، وبالتالي تُعيدها إلى أهدافها التي شُكّلت من أجلها، كما تعتقد روسيا.

منير اديب- النهار العربي

مقالات ذات صلة