“اختبار” لبنان بين الرّياض وطهران … ومنزلة “حزب الله” الإيرانيّة؟
قبل أسابيع قليلة كادت العلاقات السعودية – الإيرانية أن تعود إلى نقطة الصفر. الاتفاق بين البلدين الذي وقع في بكين في 10 آذار (مارس) 2023، ونص على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال شهرين، تعرض لانتكاسات عكسها التأزم الإقليمي في عدد من ملفات المنطقة، خصوصاً في اليمن، حيث لم تتقدم التسوية رغم ما تحقق في المرحلة الأولى بعد التوقيع. وبينما اقتصر التقدم في تنفيذ الاتفاق على عودة العلاقات وفتح السفارات، حدث تصعيد إيراني بعد مطالبة طهران بتقاسم حقل الدرة الكويتي، وهو ما دفع السعودية والكويت إلى إصدار موقف مشترك يؤكد ملكيتهما للحقل.
لكن التأزم الإقليمي الذي بدا أن ساحته الرئيسية سوريا والعراق، والتوتر الإيراني – الأميركي الذي ترجم بمواجهات على أكثر من جبهة ومحور، من التنف إلى الحدود العراقية – السورية، لم يؤد إلى حدوث موجة تصعيد إيرانية – سعودية، لا بل استوعب الطرفان التطورات، فبادرت إيران سريعاً إلى التخفيف من التوتر، عبر زيارة وزير خارجيتها حسين أمير عبد اللهيان الرياض وهي الأولى له بعد عودة العلاقات الثنائية بين البلدين، مؤكداً أن العلاقات تسير في الاتجاه الصحيح، وأن في إمكان الرياض وطهران العمل على حل الموضوعات الإقليمية العالقة. واختتم عبد اللهيان زيارته بلقاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كاشفاً أن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قبِل الدعوة لزيارة المملكة وسيلبيها في الوقت المناسب.
التساؤلات تبقى مطروحة بقوة حول الأفق السياسي للاتفاق الإيراني – السعودي، وما إذا كان هدفه الأساسي تخفيف التوترات والنزاعات في المنطقة، أم فصل العلاقات بين البلدين عنها. يتبين أن للسعودية حسابات مرتبطة بأمنها، خصوصاً في اليمن، فيما تريد إيران تخفيف الضغوط عليها والحصار المحكم بعد فشل المفاوضات حول الاتفاق النووي. وإلى أن تأخذ العلاقات مساراً ثابتاً يهيّئ المنطقة لسلام إقليمي وتوقف إيران عن التدخل في شؤون البلدان الأخرى، وهو جزء مما ينص عليه الاتفاق، سيبقى اليمن الامتحان الأول لإيران في الاتفاق مع السعودية، وهذا الملف هو المؤشر للتقدم في العلاقات إذا ما تراجعت طهران عن توظيف أوراقها وأذرعها واستثمارها في تحسين أوضاعها في صراعات المنطقة.
زيارة إبراهيم رئيسي للسعودية إذا حصلت ستكون مؤشراً على مسار العلاقات وأفقها السياسي، والأهم تغيير سياسي إيراني في النظر إلى ملفات المنطقة، خصوصاً اليمن والتعاطي معها، لكن من المبكر الرهان على إمكان حدوث تراجع إيراني كبير في اليمن أو تقديم تنازلات تؤدي إلى تقييد الحوثيين، بعدما استثمرت في هذا الملف بالمال والسلاح، وحققت مكاسب على حساب اليمنيين وشعوب المنطقة، فكيف بملفات سوريا ولبنان تحديداً الذي لم يكن في جدول أعمال التفاوض السعودي – الإيراني وصولاً إلى توقيع الاتفاق.
لم يتطرق الاتفاق الإيراني – السعودي في الأصل إلى المشكلة اللبنانية، لكنها كانت في صميمه من حيث ارتدادات ملفات المنطقة على لبنان. تفرمل الاتفاق أيضاً في سوريا، الأمر الذي ستكون له أيضاً ارتدادات على لبنان، إذ تراجع التطبيع العربي مع دمشق، خصوصاً أن السعودية لم تعين سفيراً لها حتى الآن في سوريا، وكذلك توقف الزيارات العربية التي كانت ازدحمت العاصمة السورية بها قبل القمة العربية في السعودية وبعدها، وهو ما أثار غضب إيران التي تتهم الولايات المتحدة الأميركية بممارسة ضغوط لمنع الانفتاح العربي على سوريا، في الوقت الذي ترى دول خليجية أن دمشق لم تف بتعهداتها في تنفيذ الالتزامات في ما يتعلق بالحل في سوريا.
لم يظهر في الزيارة الأخيرة لعبد اللهيان للرياض أي مؤشرات حول الملف اللبناني، وهو أمر يطرح الكثير من التساؤلات عما إذا كانت إيران تعتبر أن لبنان عبر “حزب الله” خط أحمر ولا تقدم تنازلات بشأنه، فيما مقاربة السعودية للبنان اختلفت عن السنوات السابقة، خصوصاً بعد التغيرات التي حدثت في ظل هيمنة “حزب الله” خلال ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون.
لم تتطرق السعودية في الاتفاق مع إيران إلى لبنان، وإن كان هناك حديث عن إمكان شمول لبنان بالمحادثات بين الطرفين، خصوصاً بعد زيارة عبد اللهيان للرياض. لكن المؤشر إلى ذلك هو مبادرة طهران إلى المساعدة في خفض سقف ما يطالب به “حزب الله” في الاستحقاق الرئاسي اللبناني وفي التسوية بإصراره على مرشح وحيد للممانعة. وإذا كانت السعودية تتعامل مع لبنان من خلال اللقاء الخماسي، وأعلنت موقفها في ما يتعلق بالاستحقاقات من دون أن تضع فيتو على أي مرشح للرئاسة، إلا أنها ترفض شروط “حزب الله” الذي يسعى إلى تحقيق مكاسب لبنانية كشرط للدخول في أي تسوية. ويعني ذلك أن السعودية ترفض أي بحث في الشأن اللبناني مع الإيرانيين يكون محوره الحزب، للتوصل إلى تسوية في البلد، وذلك على رغم المعلومات التي تسربت عن أن عبد اللهيان نقل رسالة إلى السعودية تفيد بأن “حزب الله” حريص على التفاهم معها.
يظهر أيضاً أن السعودية تعتبر أن لبنان لم يعد له وظيفة تشكل أولوية على غيرها. فالملف اللبناني بالنسبة إليها ليس عنوان صراع، إذ إن المعادلات القائمة لا تدفعها للعمل على تشكيل حالة سنية مواجهة هي غير متوافرة أصلاً. وعلى الرغم من التحرك الذي قام به السفير السعودي وليد البخاري في بيروت في وقت سابق، إلا أن جل ما يهدف إليه هو تحقيق نوع من التوازن عبر الحوار من دون تبنّي اسم مرشح للرئاسة، وللتأكيد على اتفاق الطائف كمرجع لأي حل. وهذا يعني أن المملكة لا تريد أن تكون طرف صراع إقليمي في لبنان، حتى أنها تسعى لتخفيف الأعباء عليها لبنانياً.
لكن خروج لبنان من الأولويات السعودية لا يعني أنه ملف خارج الاهتمام نهائياً، إذ سيبقى هناك دور للسعودية تستطيع من خلاله أن ترجح الوجهة التي ستنتهي إليها التسوية، وبذلك تبقى لاعباً مهماً في الشأن اللبناني إلى جانب أميركا وإيران. ويبدو أن اليمن بين السعودية وإيران، يبقى الملف الأول، وهو المؤشر على أي تغيير إيراني فعلي وعميق في المنطقة، فيما لبنان ساحة ممسوكة من الإيرانيين وتستثمر إقليمياً عبر “حزب الله”. وهكذا تبقى السعودية على موقفها بإعلان حيادها وترفض دعم أي مرشح باستثناء الموقف الذي أعلنته خليجياً ودولياً بضرورة وصول رئيس لبناني من خارج منظومة الممانعة، وإن كانت الوقائع تؤكد أن لا إمكانَ لانتخاب رئيس بلا مظلة إقليمية ودولية.
ابراهيم حيدر- النهار العربي