بيان الـ “31”: هنا المكمن الأساسي لضعف المعارضة
بيان الـ “31”: افتراق ضعيفين
كلّ الحركة السياسية الداخلية والخارجية المتّصلة بلبنان تؤكّد أنّه ما يزال في المحطّة ينتظر قطار التسوية الإقليمية والدولية لحلّ أزمته السياسية ومتفرّعاتها الاقتصادية والماليّة والاجتماعية. لا بل إنّ تزايد هذه الحركة في اللحظة الراهنة، وعوض أن يشير إلى تحرّك المياه الراكدة في الملفّ الرئاسي، فهو يدفع إلى مزيد من اليقين بأنّ الأزمة كامنة وأنّ حلّها يحتاج إلى وقت إضافي بمُدد مفتوحة.
فلا أسئلة الموفد الفرنسي إلى لبنان جان إيف لودريان تشير إلى أنّ الظرف الإقليمي والدولي يقرّب الحلّ في لبنان، ولا الردود عليها أيضاً. فباريس بأسئلتها تلك تحاول أن تتحدّى حالة الاستعصاء الداخلي، وأن تقول إنّها مستمرّة في مبادرتها على الرغم من تعثّرها المتواصل. وهو ما يجعل خطوتها الأخيرة كما لو أنّها هروب إلى الأمام وحسب ومحاولة جديدة لرفع المسؤوليّة عن نفسها، خصوصاً أنّ التبريرات الفرنسية لتلك الخطوة تضع المسؤولية على عاتق الأفرقاء اللبنانيين، بمعنى أنّ الموفد الفرنسي حاول أن يدفعهم إلى الإفصاح خطّياً عن مقاربتهم للأزمة الرئاسية عوض إغراقه المتواصل في سيل المواقف الشفوية المتناقضة والغامضة.
مولود ميّت
لكنّ الخطوة الفرنسية ولدت ميتة لأنّ خريطة المواقف الداخلية معروفة مسبقاً، ولأنّ الخطوة الفرنسية ظهرت وكأنّها بلا أيّ غطاء دولي وإقليمي. وهو ما يدلّ عليه بيان نواب المعارضة، لأنّ بياناً كهذا ما كان ليصدر لو أنّ ثمّة غطاءً كاملاً من أعضاء المجموعة الخماسية غير فرنسا، أي الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، للخطوة الفرنسية.
والحال فإنّ رفض أيّ صيغة حوار مع الحزب وحلفائه، كما جاء في بيان الـ”31″، هو ارتداد لعدم نضوج التسوية الدولية والإقليمية حول لبنان، ولعدم استعجال أحد في الخارج لحلّ أزمته. كما أنّ رفض المعارضة لمثل هذا الحوار، لو كانت هناك في الواقع بوادر جدّيّة إلى تلك التسوية، كان سيظهرها معزولة خارجياً، وهو ما سيضعفها أكثر أمام الحزب.
بيد أنّ هذا البيان الذي عدّته المعارضة دليلاً على قوّتها يُظهر في الواقع ضعفها أو بالحدّ الأقصى حدود قوّتها في مقابل قوّة الحزب الذي تعامل مع الأسئلة الفرنسية ببرودة مطلقة، لكنّ رفض المعارضة للحوار معه سيعطيه حجّة إضافية لاتّهامها بعرقلة حلّ الأزمة، وهذه لعبة سياسية – أخلاقية يُتقنها الحزب، خصوصاً أنّ رفض أيّ حوار هو، من حيث المبدأ، نقيصة سياسيّة، ولو كان أيّ حوار مع الحزب في ظلّ الظرف الراهن بلا جدوى، ما دام متمسّكاً بشروطه ولن يتنازل عن أيّ منها إلّا في إطار تسوية دولية، وبالتحديد أميركية، مع حليفته إيران بشأن لبنان، أو على الأرجح في إطار مقايضة بين الجانبين حول ملفّات إقليمية عدّة.
مكمن الضعف
هنا المكمن الأساسي لضعف المعارضة. فصحيح أنّ المعارضة منعت حتّى الآن الحزب من انتخاب مرشّحه للرئاسة سليمان فرنجية، لكنّها في المقابل لم تستطِع دفعه إلى التراجع والتخلّي عن ترشيحه، إلّا أنّ هذا المكسب ليس مكسباً نهائياً، لأنّ أيّ تسوية خارجية بشأن لبنان، في ظلّ الظرف الإقليمي والدولي الراهن، ستأخذ بشروط الحزب أكثر ممّا ستأخذ بشروط المعارضة. وبالتالي فإنّ الاختلال في موازين القوى الداخلية قائم ومستمرّ، ولا يبدّل فيه بيان الـ “31” شيئاً بل يؤكّده، خصوصاً أنّ الحزب غير مستعجل لانتخاب رئيس للجمهورية مهما طال الفراغ، ما دام الأمر لا يشكّل أيّ عبء سياسي عليه، سواء من الداخل أو الخارج.
لكن في المقابل فإنّ عجز المعارضة عن تعديل ميزان القوّة الداخلي غير متّصل بنوعية حركتها السياسية وحسب، بل وبكون الحزب مسلّحاً وقادراً على استخدام سلاحه، أي أنّه قادرٌ على وضع قوانين اللعبة السياسية من خلال ترهيب السلاح، خصوصاً أنّ مواجهة المعارضة معه لا تحصل في ظلّ غطاء عربي ودولي كامل و”نوعيّ” كما حصل بين 2005 و2008، علماً أنّ الحزب استطاع آنذاك بقوّة السلاح والعنف أن يقلب المعادلة لمصلحته.
ظرف مختلف
نحن الآن في ظلّ ظرف دولي وإقليمي مختلف كليّاً، سمته الرئيسية وجود حدود خارجية للمواجهة مع الحزب ليست كلّ أسبابها داخلية، بل جلّ تلك الأسباب متّصل بالسياسات العربية والدولية تجاه إيران. وبالتالي فإنّ المعارضة العاجزة عن القيام بمواجهة ذات سقف سياسي مرتفع جدّاً مع الحزب، لا تستطيع، من ناحية الجدوى السياسية، أن تصوّر عبر أدواتها السياسية والإعلامية أنّ فرنسا هي المشكلة في لبنان لمجرّد انفتاحها على الحزب وأخذها بشروطه بالحدّ الممكن.
لو كانت المعارضة ترفع عنوان “رفع الاحتلال الإيراني عن لبنان”، وهو العنوان السياسي الأعلى سقفاً في المواجهة السياسية مع الحزب، لكانت تستطيع أن تهاجم المبادرة الفرنسية بقوّة أشدّ وصدقية أكبر، لكنّ التزامها سقفاً سياسياً منخفضاً نسبياً في المواجهة مع الحزب يجعل “استقواءها” سياسياً وإعلامياً على فرنسا في غير محلّه ودليل ضعف لا قوّة، خصوصاً أنّ فرنسا باتت الأضعف بين دول المجموعة الخماسية بسبب مبادرتها اللبنانية الفاشلة التي تقع رهينة توازنات العلاقة بين أميركا وإيران وبين السعودية وإيران، إلا إذا استطاعت المعارضة أن تبادر وتطرح أفكاراً رئاسية جديدة تربك لودريان أو تساعده في مبادرته، وفي الحالين فإنّ “معاداته” نقطة سلبية في سجلّ المعارضة.
لذلك كان على المعارضة أن تفكّر بوضع شروط، ولو تعجيزية، للقبول بالحوار مع الحزب عوض رفضه بالمطلق، أي كان من مصلحتها هذه المرّة أيضاً رمي الكرة في ملعب الحزب ولودريان.
في المحطّة
لكن ليست أسئلة لودريان ولا ردّ المعارضة عليها وحدها ما يشير إلى أنّ لبنان ما يزال في محطة القطار. فحتّى حوار الحزب وجبران باسيل، الذي بدا وكأنّه يكسر الجمود الداخلي ويعطي إشارات جدّية إلى إمكان حلحلة الملفّ الرئاسي، يراوح مكانه في ظلّ جمود الوضع الخارجي المتّصل بلبنان، لأنّ باسيل لا يقيم حساباته بطبيعة الحال على قاعدة داخلية وحسب، بل على قاعدة خارجية أيضاً. فهو يحاول أن يبني تقاطعات داخلية – خارجية حول موقفه، وهذه لعبة صعبة قد تنجح وقد تفشل بحسب تطوّرات المواقف الخارجية من الأزمة الداخلية وبحسب المرونة السياسية للحزب. بيد أنّ الجميع في المحصّلة يتأقلم مع الفراغ الرئاسي ويحاول تحسين مواقعه في ظلّه عوض محاولة وضع حدّ له، وهذا دليل على عمق الأزمة اللبنانية التي أصبحت تتجاوز الفراغ الرئاسي نفسه، بل إنّ هذا الفراغ نتيجة لها ولقوانين اللعبة السياسية المختلّة والخارجة عن أيّ إطار دستوري.
ايلي القصيفي- اساس