في حادثة أبعد ما تكون عن «القضاء والقدر»: نهاية زعيم «فاغنر»!
بعد طول شائعات وتكهّنات وتوقّعات، حُسم مصير يفغيني بريغوجين، مساء أمس، بمقتله في حادثة تحطّم طائرته في منطقة تفير شمال موسكو، والتي بدت أبعد ما تكون عن «القضاء والقدر». حادثةٌ ستطوي صفحة «فاغنر» بصورتها التي قادها «شبح بوتين»، صانعاً لروسيا أمجاداً عابرة للقارات، وستنفتح أخرى عنوانها على ما يبدو أن من يعصي القيادة الروسية، في خضمّ ما تراهُ حربها الوجودية مع الغرب، سيلاقي مصيراً لا يقلّ قتامةً عمّا لاقاه أسلافه ممن قادوا حركات تمرّد أو تفلّت.
وُلد يفغيني بريغوجين في اليوم الأول من شهر حزيران، من عام 1961 في مدينة سانت بطرسبرغ. مكان الولادة، سيشكّل إحدى نقاط التلاقي مع فلاديمير بوتين، بعد تربّع الأخير على كرسي الحكم في «الكرملين» في الأسبوع الأخير من عام 1999، حيث كان للانتماء المناطقي دور في تحديد العلاقات بين المواطنين الروس، في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي. وتشير السيرة الذاتية لبريغوجين إلى أن «الفتى»، كان قد حُكم عليه بالسجن مطلع شبابه مرّتين على خلفية تهمة بالسرقة، الأولى في عام 1979، وكانت مع وقف التنفيذ، بعكس الثانية في عام 1981، التي قضت بسجنه 13 سنة، قضى منها 9 سنوات، في أحد سجون لينينغراد، التي سيجدها، عندما سيخرج، وقد استعادت اسمها القديم، سانت بطرسبرغ. لم يكن من الصعب على الفتى، الذي اشتدّ عوده مع بلوغه الثلاثين من العمر، أن يخمّن اتجاه الرياح القادمة وما الذي ستقتلعه، ثم علامَ سترسو؟، إذ لطالما كانت «مناخاته» تُعنى بمثل ذلك اللحظ الذي تتطلبه «المهنة» التي اختارها مطلع شبابه، وهي تشير إلى نزوع جامح لديه يقول بوجوب «حرق المراحل»، لربّما استمدّه مما كان يُروَّج له في شوارع مدينته السوفياتية حيث نمت رؤاه وأفكاره، والذي كان يشدد على أهمية ذلك تجنّباً للمرور بالطريق الرأسمالي.
باختصار، كان ذلك الشعار إسقاطاً لـ«الأيديولوجيا»، على التجربة الشخصية لحلّ معضلة «الرحلة» القصيرة التي يعيشها الفرد، والتي ليست كافية لإنجاز الكثير وخصوصاً إذا ما افتقد هذا الأخير إلى أكياس المال التي يمكن أن «تتنوقل» بفعل تعاقب الأجيال. هذا النزوع سيظلّ جامحاً في نفس الرجل، ما سيظهر في محطات عمره التي صقلتها التجربة، لكنّ «الصقل» كان يقوم أساساً على تعزيز قوالب التجربة، في السياق ذاته التي قامت عليه أيام الصبا والجموح والطموح. كانت مرحلة «اللبرلة» التي دخلتها البلاد مع وصول بوريس يلتسين إلى «الكرملين» مثالية لدخول أحلام بريغوجين مرحلة الإلقاح والتخصيب، وفي أتونها سيذهب نحو تأسيس سلسلة مطاعم فاخرة تليق بطبقة «الأوليغارشيين»، التي راحت تتّضح معالمها بسرعات ضوئية على وقع التحولات الجارية في البلاد، ثم على وقع «النخورات» التي راحت «سوسة» الغرب تنجزها بشكل بدا مخطّطاً له وممنهجاً، كمن يُعدّ «حصيرة» لكي لا تقع الثمار على الأرض.
ستشهد العلاقة بين بوتين وبريغوجين، محطة هامة، في اليوم الأول من حزيران 2003، عندما قدم الأول إلى مطعم «نيو آلاند»، المملوك لبريغوجين الذي اختطّه كسفينة تبحر في نهر نيفا، لحضور عيد ميلاده الثاني والأربعين. سيؤسس هذا اللقاء، نقطة تقارب بين الرجلين، حيث سيوجّه «القيصر»، في تلك المناسبة، ذوي الاختصاص في «الكرملين» لتوقيع عقد مع شركة «كونكورد»، المملوكة أيضاً لبريغوجين، يقضي بأن تقوم الأخيرة بتزويد «الكرملين» بالطعام، الأمر الذي دفع بالصحافة الأميركية إلى إطلاق لقب «طبّاخ بوتين»، عليه في ما بعد.
ظهرت ظلال بريغوجين في سوريا ما بعد «عاصفة السوخوي»، التي انطلقت خريف عام 2015. وفي الوقت ذاته، كانت بصمات الرجل تظهر من بعيد في أفريقيا، وكذلك أحداث القرم 2014، التي انتهت بإعلان روسيا ضمّ شبه الجزيرة إلى أراضيها. راجت في حينها تقارير غربية تقول إن «شركة عسكرية خاصة تقاتل في منطقة دونباس في أوكرانيا»، ليتأكّد أن الشركة هي «فاغنر» التي استمدّ مؤسّسها، بريغوجين، تسميتها من إعجابه بـ«قائد نازي»، كان مغرماً بموسيقى «فاغنر» ذائع الصيت في «السوق» الألمانية ذات الاختصاص. ومن المفارقات هنا، أن «اجتثاث النازية»، مثّل أحد شعارات «العملية العسكرية الخاصة» التي أطلقتها موسكو في أوكرانيا في شباط 2022.
قبيل الانخراط في العملية العسكرية في أوكرانيا، كان بريغوجين قد انتقل إلى العمل في «مزارع البترول»، وكذلك «مصانع البوت» التي تستخدم حسابات لوسائل التواصل الاجتماعي، بهدف نشر الأفكار والطروحات التي تروّج لسياسات «الكرملين». والجدير ذكره في هذا السياق، أن واشنطن كانت قد وجّهت إلى «وكالة أبحاث الإنترنت IRA»، التي كانت من ضمن ما يديره بريغوجين، تهمة التدخل في الانتخابات الأميركية في خريف عام 2016، وكان ذلك مؤشّراً إلى تنامي دور الرجل وشركاته إلى العالمية.
كان لبريغوجين، ولـ«فاغنر»، دور كبير في الحرب الأوكرانية، التي عانت من تعثّرات عديدة ومعقّدة، ما ترك تداعياته أيضاً على بريغوجين، الشخصية والدور، لينفجر بركان 24 حزيران الفائت، الذي استحضر سيناريوات خطرة، أقلّها إمكان اهتزاز العلاقة ما بين القيادتين السياسية والعسكرية في البلاد، خصوصاً بعدما تركّزت «انتقادات» بريغوجين على الأخيرة، مقابل تبرئته الأولى، في ما أراد من خلاله القول إن مشكلته ليست مع بوتين.
ما بعد تحرّك «فاغنر» الأخير راجت نظريّات عدّة تحاول شرح أسباب «تمرّد» بريغوجين، ودوافعه. رَاوحت النظريات ما بين مرجّح لحتمية التضارب بين «المؤسسة العسكرية النظامية» وفصيل «مرتزق»، وآخر عزا الأمر إلى طموحات الرجل التي لا تعرف حدوداً، والتي وجد في «اللحظة» الراهنة ما ينعش المزيد منها على وقع التطورات الحاصلة التي فرضتها الحرب. ويضيف هؤلاء أن تفضيل الغرب لحالة الترقّب في انتظار التداعيات، كان هو السبب في انقضاء «ليل روسيا الطويل»، في أكثر بقليل من 24 ساعة، عندما أُعلنت نهاية «التمرّد» تماماً، بوساطة قام بها الرئيس البيلاروسي.
في الأيام التي تلت تحرّك بريغوجين، ساد اعتقاد بأن حسابات الرجل الخاطئة، لن تقضي عليه، ولا على تنظيمه، على الرغم من أن نوعاً مثل هذا «التمرّد»، يصيب عمق الأنظمة «العسكريتالية». لكن مع حلول ليل أمس، وارتطام الطائرة التي تقلّ يفغيني بريغوجين، ومجموعة من قادة «فاغنر»، بوجه الأرض، انكشف أن الرجل كان ينتظر مصيراً لا يقلّ قتامةً عمّا لاقاه أسلافه ممن قادوا حركات تمرّد أو تفلّت، مثل ميخائيل خودروفسكي، أحد أباطرة مرحلة التفلّت في التسعينيات، الذي سُجن ونفي بهدوء، وكذلك ألكسندر نافالتي الذي لا يزال يقبع في السجون الروسية.
عبد المنعم علي عيسى- الاخبار