هل سيقتصر التدقيق الجنائي على مصرف لبنان وتنجو منه بقية المؤسسات؟
لم تكتمل فرحة اللبنانيين بصدور التقرير الجنائي، إذ كانت الصدمة في المادة 5 من العقد الموقع بين الحكومة اللبنانية وشركة “ألفاريز أند مارسال”، حيث “لا يحق للدولة استخدام التقرير أمام القضاء إلا بعد موافقة الشركة التي يعود إليها، في هذه الحالة وقبل إجازة الاستعمال، الحق في تعديله وتكييفه أو حذف اسمها عنه”، وبالتالي بروز عراقيل تمنع تحويل التقرير الذي تضمن الكثير من الارتكابات والتجاوزات إلى أداة للمحاسبة والمساءلة.
ووفق المعلومات فإن التقرير لم يستطع الحصول على أكثر من 30 في المئة من الوثائق التي طلبها، حيث تم الامتناع عن تسليم بقية المستندات بذرائع مختلفة منها قانون النقد والتسليف الذي يمنع كشف تلك المستندات، ولا سيما تلك المتعلقة بالمؤسسات المرتبطة بمصرف لبنان مثل بنك التمويل وشركة طيران الشرق الاوسط وشركة “إنترا” وكازينو لبنان.
كذلك تشير مصادر في مصرف لبنان، إلى أنه تم رفض طلب شركة التدقيق بالاستماع إلى بعض الموظفين في مواقع حساسة، إضافة إلى منع التقنيين في الشركة من الوصول إلى الـ “سيرفرات” للحصول على الجداول المالية والمستندات، وتم الاكتفاء بتصويرها بطريقة فوتوغرافية.
المالية والطاقة
وفي هذا الإطار، كشف أحد النواب المعارضين (طلب عدم كشف اسمه)، أنهم بالتنسيق مع بعض التغييريين والمستقلين، يتحضرون لتقديم عريضة إلى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي للمباشرة بالتدقيق الجنائي تحديداً في مؤسسة كهرباء لبنان، انطلاقاً من التوصية التي أقرها مجلس النواب في 27 أكتوبر (تشرين الثاني) 2020، والتي تنص على إخضاع مصرف لبنان للتدقيق الجنائي مع كل مرافق الدولة “بحيث تخضع حسابات مصرف لبنان والوزارات والمصالح المستقلة والمجالس والمؤسسات المالية والبلديات والصناديق كافة بالتوازي للتدقيق الجنائي من دون أي عائق أو تذرع بالسرية المصرفية أو بخلافه”.
وبرأيه وانطلاقاً مما توصل إليه تقرير “الفاريز أند مارسال”، يجب الشروع فوراً إلى التدقيق الجنائي في حسابات وزارة المال التي “قوننة” الفساد عبر مراسيم وميزانيات وارتباط مباشر بحاكمية مصرف لبنان، إضافة إلى وزارة الطاقة حيث كشف التقرير عن أرقام صادمة لمصلحة الوزارة ومؤسسة كهرباء لبنان بلغت 47 مليار دولار في وقت يعاني لبنان من أزمة كهربائية مزمنة ويعتمد المواطنون على الاشتراكات المحلية لتعويض نقص كهرباء الدولة.
وبمقابل تقرير “الفاريز أند مارسال”، تحدث عن التقرير الخاص الصادر عن ديوان المحاسبة حول وزارة الاتصالات، يتبيّن أن جميع وزراء الاتصالات الذين تعاقبوا على الوزارة من عام 2010 لغاية عام 2018 وهي الفترة الزمنية التي شملها التقرير، صرفوا على الرعاية والدعاية من شركتي الخلوي، وهي أموال عمومية، ما يفوق 130 مليون دولار. وقد خصّص تقرير الديوان بالتفصيل جداول بالأسماء وهي بالمئات لكل المدفوعات. وتخوف أن يكون هدف التقرير “دعائي” لحرف الأنظار عن الفساد المستشري في بقية الوزارات والدوائر الحكومية، وحصر المحاسبة بحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة الذي برأيه ارتكب الكثير من المخالفات ومشتبه بتورطه بعمليات فساد، إلا أن تحييد السياسيين والمصرفيين والموظفين الكبار المحظيين بحماية سياسية لا يؤدي إلى محاربة الفساد وتحقيق العدالة.
“إخبارات” وجرائم جنائية
وفي السياق، كشفت الباحثة في القوانين المصرفية والمالية سابين الكك، أنه وعلى رغم تضمن عقد شركة “الفاريز أند مارسال” مع الدولة اللبنانية بنوداً تعقد آلية استخدامه أمام القضاء، إلا أنه كونه بات مسرباً بين المواطنين فهذا لا يعني بالمطلق أن القضاء لا يمكنه التحرك، إذ يتضمن القانون اللبناني حق “الإخبارات”، إضافة إلى أن النيابات العامة في لبنان كجهة مكلّفة بتمثيل المجتمع لا يمكنها إلا أن تتحرك وفق هذه الأصول، مشيرة إلى أن المدعي العام التمييزي غسان عويدات قام بمطالعة بمضمون التقرير وأحالها إلى كل من النيابة العامة المالية والنيابة العامة الاستئنافية في بيروت، وهيئة التحقيق الخاصة، لإجراء التحقيقات اللازمة.
PDF iconمطالعة النائب العام لدى محكمة التمييز.pdf
وأوضحت أن استعمال المعلومات والتحرّك بناء للشبهات والإخبارات التي تضمنها هذا التدقيق الجنائي أمر مختلف خصوصاً أن مفهوم التدقيق الجنائي بحد ذاته هي الشكوك والريبة حول ارتكابات لها طابع جزائي وجنائي، مشيرة إلى أن تقرير “الفاريز أند مارسال” لا يشمل السنوات الثلاث الأخيرة حيث هناك شبهات كبيرة ارتكبت تتعلق بالدعم الذي يقدر بحوالي 20 مليار دولار، إضافة إلى منصة “صيرفة” التي اعتمدت آلية غير شفافة أسهمت بحصر الاستفادة منها بجهات معينة، بالتالي برأيها تستطيع النيابات العامة التدقيق بتلك الأخبار والتحرك لاتخاذ المقتضى بدءاً من التوسع بالتحقيق وصولاً إلى تعيين خبراء.
ولفتت إلى أن التدقيق الجنائي أعمق بكثير من التدقيق المالي، حيث “يستمر لأشهر أو لسنوات عدة والهدف منه الوصول إلى اكتشاف العمليات غير الشرعية، والغش، والتزوير واختلاس الأموال العامة والتحويلات غير القانونية إلى خارج البلاد في حال حصولها، وتماشياً مع هذا التحقيق يتكون ملف قضائي جزائي إذا ثبتت الشبهات”.
وأضافت أن وجود البند المتعلق بكيفية استعمال المعلومات بالتقرير، لا ينفي ولا يمكن أن يعلو فوق النصوص القانونية والنظام العام في لبنان الذي يُلزم النيابات العامة التي يجب وفق القانون أن تتحرك عند أي إخبار، مؤكدة أن من واجبات التدقيق الجنائي تسليط الضوء على الشكوك والارتكابات التي تصل إلى حد الارتكابات الجنائية التي يمكن عندها إسقاط أوصاف جرمية عليها.
وشددت على ضرورة فتح باب التحقيق الجنائي بشكل أوسع في مصرف ومن ثم المصارف والوزارات والدوائر الحكومية حيث شبهات الهدر والفساد واضحة المعالم، وقد أسهم تقرير “الفاريز أند مارسال” برسم صورة أولية عنها كونه استند إلى داتا معلومات وبيانات مهمة.
وشدّدت على ضرورة رسم ورشة عمل طارئة في لبنان على المستوى المالي والحقوقي والقضائي والتشريعي والتنظيمي في مصرف لبنان، وفي القطاع المصرفي ككل تعمل بشكل متكامل تبدأ بالمحاسبة والمساءلة، وتبدأ باستكمال هذا التقرير زمنياً أي قبل عام 2015 ورحلة ما بعد عام 2020 كونها فترة حرجة ودقيقة وحسّاسة في تاريخ الأزمة اللبنانية.
الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد
من ناحيته، أشار المحامي المتخصص في الشؤون المصرفية هاني الأحمدية إلى أن تقرير “الفاريز أند مارسال” هو بمثابة تدقيق أولي، “وأن الذهاب إلى التدقيق الفعلي سيتم في مرحلة ثانية ويحتاج إلى عقد آخر في حال تجرأت السلطة”، مشيراً إلى أهمية تفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من خلال إعطائها الصلاحيات وتأمين التمويل اللازم لإحالة هذا التقرير إليها، لإجراء المحاسبة والتدقيق داخل مصرف لبنان الذي يُمثّل “رأس جبل الجليد” في عملية نهب الأموال العامة وأموال المودعين، إضافة إلى التدقيق داخل بقية مؤسسات الدولة.
وبرأيه فتح التقرير هوة في جدار الفساد الذي بنته السلطة السياسية، حيث يفترض إحالته إلى هيئة مستقلة لمتابعة التحقيق والادعاء على كل من يثبت تواطؤه بسلب الأموال، منوهاً إلى أن اللجوء إلى شركة أجنبية لإجراء التدقيق سببه عدم الثقة في المؤسسات المحلية التابعة للقطاع العام والخاص، ومؤكداً أن القانون في لبنان يمنع تكليف شركات محاسبة أجنبية لإجراء أي تدقيق داخلي سواء في القطاع العام أو الخاص، وأن قانون تنظيم مهنة المحاسبين في البلد يفرض أن تكون شركات المحاسبة وطنية، في إشارة إلى المخالفة الحاصلة بالتعاقد مع شركة الفاريز.
ويعتبر أن جميع أعضاء المجلس المركزي في مصرف لبنان شركاء مع الحاكم السابق رياض سلامة بالانهيار وما حصل من فضائح وفساد، لافتاً إلى أن الفجوة المالية التي أشار إليها التقرير إضافة إلى عمليات الفساد الكبيرة والملفات الضخمة للشركات الناشئة، وإلى عملية النهب الكبيرة التي حصلت لأموال المودعين وأموال الخزينة، التي تتطلّب تفعيل دور القضاء للقيام بملاحقة المسؤولين، مشدداً على دور القضاء المتماسك في تحقيق العدالة.
اندبندنت