التطويع الإيراني لسائر الشيعة اللبنانيين والعرب… بالعزل أو التخوين أو استخدام العنف!

كثر يستحضرون أبياتاً من قصيدة الشاعر موسى شعيب في مقاربة الواقع العربي. في قراءتهم لمضامين القصيدة، ترتسم أمامهم معالم “المنطقة العربية” من بغداد إلى دمشق فبيروت. ومما قالته القصيدة: “أسرج خيولك أن الروم تقتربُ ووجه أمك قتال به العتبُ.. أسرج خيولك كسرى عاد ثانية وشهوةُ الملك في عينيه تلتهبُ.. وفي الشآم خيول الغزو جامحة تدوس قبلتك الأولى وتغتصبُ”. يختتم موسى شعيب قصيدته بـ”وآية الله قد خصت بها العرب”.

محطات تاريخية
يشير اختتام القصيدة إلى صراع تاريخي على المرجعية “الشيعية” بين إيران من جهة، والعراق من جهة أخرى. واستذكارها يمرّ على تجارب كثيرة ومريرة كان آخرها قرار هيئة التبليغ الديني في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بنزع الأهلية عن 15 شيخاً. فيما أشار المجلس إلى عدم علمه بما جرى ولم يطّلع عليه. في الجانب التبسيطي لما يجري، يمكن الاستنتاج إلى أن صدور القرار يرتبط بالتضييق على أي رأي خارج “منطق الثنائي الشيعي”، سياسياً أو دينياً. لكنها ليست المرّة الأولى التي تشهد الطائفة الشيعية مثل هذا النوع من الإجراءات أو الاختلافات.

يستحق ما جرى العودة بقراءة سريعة لمحطات تاريخية، في مسار “صعود” الشيعية السياسية في لبنان. في حقبة ولادة لبنان الكبير، يمكن تقسيم الشيعة إلى أقسام ثلاثة، يمثل الجانب الأول منهم الإقطاع الشيعي، والذي كان على علاقة جيدة بالفرنسيين، وتطورت لاحقاً إلى علاقة ممتازة بالمسيحيين الموارنة. الجانب الثاني، الذي مثله أدهم خنجر وجماعته مع مشايخ وعلماء، أيدوا الثورة العربية والانخراط فيها عسكرياً، اعتراضاً على سايكس بيكو وإنشاء لبنان الكبير. أما الجانب الثالث، فكان إلى جانب الثورة العربية، ولكن من دون الالتحاق العسكري بها. فيما بعد، وفي العام 1926 اعترف الدستور اللبناني الموضوع فرنسياً، بالمكون الشيعي رسمياً، واستتبع ذلك إنشاء محاكم شرعية مستقلة لإبعاد الشيعة عن الثورة السورية الكبرى.

الدخول إلى الدولة والعسكرة
مع دخول لبنان في حقبة الإستقلال ونشوء الميثاق الذي “اختُصر” بين السنّة والموارنة، بقي الشيعة في وجدانهم خارج فكرة لبنان الكبير أو لبنان الدولة. وتراكم في الوعي العام الشيعي تصوّر “المحرومين”، والذي أطلقه ثورةً الإمام السيد موسى الصدر، الذي يعود الفضل إليه لإدخال الوجدان الشيعي إلى بنية الدولة اللبنانية. فتركز خطابه على مسؤولية وطنية رفيعة أسهمت في إدخال أبناء الطائفة الشيعية إلى الدولة اللبنانية. بينما، سُجلت اعتراضات خجولة، سنية تحديداً على إنشاء “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، والذي اعتبر انشقاق أولي عن الجسم الإسلامي الموحد، المتمثل بدار الفتوى أو المجلس الإسلامي الشرعي.

وعلى قدر اهتمام الإمام الصدر في جعل أبناء الطائفة الشيعية كأبناء للدولة، بقيت قطيعة راسخة في الوجدان بينهم وبينها، على قاعدة أنها حرمتهم وهمّشتهم، ولا بد لهم من استرداد حقوقهم منها بشتى الطرق.

في أعقاب الحرب الأهلية، واجتياح العام 1978، وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، بدأت تتشكل الحالات العسكرية في الطائفة الشيعية، والتي كانت قد بدأت مع أفواج المقاومة اللبنانية-أمل، وتالياً بتأسيس حزب الله كجسم عسكري مقاوم، قبل أن يذهب باتجاه لبوس الجسم السياسي. وقد بدأت منذ تلك الفترة مراكمة القوة العسكرية والسياسية، والتي تجسدت بعد انحساب العدو الإسرائيلي من بيروت، وخروج منظمة التحرير الفلسطينية. فشهدت الساحة الشيعية حرب تصفيات كبيرة من قبل القوى “الإسلامية” فيها، ضد أبرز شخصيات اليسار وأركان المقاومة في الحزب الشيوعي والقومي السوري ومنظمة العمل والبعث العراقي خصوصاً. وبذلك سيطر حزب الله عسكرياً على المقاومة، من دون إغفال الصراع الدموي الكبير الذي حصل بينه وبين حركة أمل. فكان صراع داخل البيت الواحد، وبمعايير إقليمية، بوصفه صراعاً بين إيران وسوريا، فكلا الطرفين كانا يريدان الإمساك بالورقة الشيعية وبورقة المقاومة. إذ أن حافظ الأسد حاول دوماً السيطرة على البندقية الفلسطينية وعمليات المقاومة في الجنوب، فيما عملت إيران على الاستثمار بأبناء البلد لتعزيز مقاومتهم وقوتهم.

السلاح والتخوين
إثر انتهاء الحرب الأهلية، تعزز موقع الشيعة في بنية النظام، والذي اتخذ نموذج “الترويكا” في الحكم. فيما حصر علم المقاومة والبندقية بحزب الله. استمر الوضع على حاله، إلى لحظة الحرب على الإرهاب، واجتياح العراق، ما عزز من النفوذ الإيراني الذي انتقل إلى لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري. ولاحقاً، ترجم بقوة في سوريا في أعقاب اندلاع الثورة السورية وتدخل إيران وحزب الله العسكري هناك. في تلك الفترة برزت أصوات كثيرة من داخل الطائفة الشيعية، من أبرزها العلامة السيد محمد حسن الأمين، والعلامة السيد علي الأمين، والسيد هاني فحص، وآخرين.. ترفض هذا القتال وتحرّمه. فعمل حزب الله على مواجهة مطلقي هذه المواقف، وصولاً إلى حد التخوين. إذ لم يكن الحزب في وارد السماح لأي من الأصوات الاعتراضية أن تستمر وتتعاظم.

جانب اعتراضي، اجتماعي، برز في الأوساط الشيعية أيضاً، مع اندلاع ثورة 17 تشرين، كان له مفاعيل سياسية ومعيشية، في إشارات اعتراضية متعددة على أداء الثنائي الشيعي. وغالباً ما تمت مواجهة هذه التحركات باللجوء إلى العنف. فكان لا بد من إسكات كل الأصوات الإعتراضية. وحتى من خرج بموقف عنيف تجاه قيادة الثنائي، غالباً ما كان يتم الضغط عليه ليعود معتذراً. هذه الحالة، تحاكي بشكل كامل، ما تعرّض له 15 شيخاً في قرار هيئة التبليغ الديني.

إيران والعرب
هنا تجدر العودة إلى قصيدة موسى شعيب، وتحديداً العجز الأخير منها، وفيه يقول: “وآية الله قد خصّت بها العرب”. والتي تحاكي صراعاً تاريخياً على المرجعية الشيعية، بين إيران من جهة، والنجف من جهة أخرى. وبالتالي، يمكن وصف هذا الصراع، سياسياً، بأنه صراع تاريخي بين “تشييع إيران” أو “فرسنة الشيعة”. وهو ما له انعكاساته في لبنان والعراق وغيرهما. فما يجري في لبنان حالياً، وكان قد جرى من قبل، له ما يقابله في العراق، من خلال مسار تطويق النجف، ومحاولات زرع الشقاق بين المرجعيات الشيعية، أو بين بعضها مع السيستاني. وما جرى من قبل في محاولات تطويق المرجعية الصدرية، والمرجعية الخوئية. حتى في اليمن، فإن بعض رمزيات احتفالات الحوثيين، لم تعد ذات طابع ثقافي يمني، بل غلبت عليها الطبيعة الإيرانية، بالمظهر، والملبس والأدبيات، هذا ناهيك عن التماهي السياسي مع إيران.

ولدى مقاربة مثل هذه التطورات، لا بد من العودة إلى محطة أساسية في الصراع على المرجعية الشيعية، خصوصاً بين ولاية الفقيه من جهة، والعلامة السيد محمد حسين فضل الله، والذي كانت له علاقات قوية بإيران وبالسيد الخميني، ووصف في مراحل كثيرة بأنه الأب الروحي لحزب الله. وفي تلك الفترة، توالد الصراع على خلفية إعلان السيد الخامنئي نفسه مرجعية خارج إيران، أي في العالم الشيعي العربي تحديداً، فيما كان جمهور فضل الله واسعاً جداً في العالم العربي، وبالتالي كان أهم منافس لمرجعية الخامنئي. فشنّت حملة عنيفة على فضل الله من قبل مرجعيات تقليدية لا صلة مباشرة لها مع الإيرانيين. تزامن ذلك، مع حادثة كبرى هي دخول أحد أبرز القادة العسكريين في حزب الله مصطفى بدر الدين، إلى منزل السيد فضل الله وإطلاقه النار داخل المنزل. سعى حزب الله إلى معالجة المشكلة ولكن ليس على مستوى الحزب وفضل الله، إنما وفق جانب شخصي بينه وبين بدر الدين، الأمر الذي اعتبره فضل الله انتقاصاً له ومناورة من قبل الحزب ضده.

يعتبر الشيخ ياسر عودة أحد أبرز تلامذة فضل الله، والقرار الذي اتُخذ بحقه وحق الآخرين، ينتج عن ضغائن قديمة، لا سيما أن عودة لطالما أثار اعتراضات دينية وثقافية وفقهية على أداء المرجعيات الشيعية. شيء مشابه تماماً لآلية الاعتراض على السيد فضل الله يتكرر مع الشيخ ياسر عودة، من خلال جعل أعضاء هيئة التبليغ الديني الذين لا يرتبطون بصلة مباشرة مع الحزب في اتخاذ قرار نزع الأهلية، بينما يبقى الأثر السياسي الفعلي في يد حزب الله.

أما البيان التصحيحي الصادر عن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والذي حمل تراجعاً ولو رمزياً عن القرار، فيما أثره الفعلي والمعنوي قد وقع، فهو يمثّل إجراءً لتجنّب حصول أي انشقاقات أو تشظيات داخل البيئة الشيعية، في مقابل ما عمل الحزب على تكريسه مع كل الجماعات اللبنانية، من خلال السعي إلى تطويعها، إما بمحاولات العزل، أو التخوين أو استخدام العنف. فهو بذلك نجح في تكريس قوته السياسية بتطويع السنّة، وبعض المسيحيين والدروز.. فلا بد له من تطويع سائر الشيعة أيضاً. وهو مسار يكمّل بعضه بعضاً، من العراق إلى سوريا فلبنان.

منير الربيع- المدن

مقالات ذات صلة