الكحّالة وعناصر الأزمة الكبرى: حادثة على ضفاف “تفاهم مار مخايل”
تجمّعت في حادثة الكحّالة كلّ عناصر الأزمة الكبرى بوجوهها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتخبّط فيها لبنان. لذلك يمكن القول إنّ الحادثة هي نتيجة للأزمة تلك، ويمكن القول أيضاً إنّها دليل على أنّ الأزمة مرشّحة لمزيد من التفاقم وبلوغ درجات أكثر خطورة بالنظر إلى انعكاساتها على الأرض، وفي عقول اللبنانيين وتوجّهاتهم السياسيّة والحياتية، التي تأخذ مناحي متطرّفة واضحة.
إذا كان سلاح الحزب مشكلة رئيسية في البلد، فإنّ ردود الفعل على هذه المشكلة أصبحت تشكّل هي نفسها مشكلة. والمشكلة الكبرى أنّه لا يوجد طرف وسط وفوق الاصطفافات يستطيع أن يعبر بينها وأن يجد لها مخارج تنفّس احتقاناتها إن لم تكن قادرة على حلّها. فالراديكالية التي تطبع حركة طرفَيْ الصراع في لبنان تأكل أصحابها فيما يظنّون أنّها وسيلة ناجعة لحسم الصراع لمصلحتهم.
لكنّ هذا الصراع نفسه يشهد تحوّلات نوعية، خصوصاً في المعسكر الخصم للحزب، باعتبار أنّ معسكر “الممانعة” ثابت أكثر في معادلاته وتناقضاته الداخلية. فحادثة الكحّالة أظهرت أنّ ثمة توجّهاً على الأرض، أي بين الناس، لا تستوعبه الأحزاب المسيحية التي يُفترض أنّها تعبّر عن بيئتها الاجتماعية، بمعنى أنّ “الأرض” أصبحت متفلّتة من خطاب تلك الأحزاب ومن حركتها السياسيّة واعتباراتها، وهي تبدو أحياناً كثيرة على يمين تلك الأحزاب.
متغيّر تاريخيّ
هذا متغيّر أساسي وحتّى تاريخي في البيئة المسيحية ناجمٌ، في جزء أساسيّ منه، عن طبيعة الأزمة المستمرّة منذ خريف عام 2019، والتي تمخّضت عن وعي وسلوك جديدين في هذه البيئة، تجاه الأحزاب والقوى السياسية والسياسة عموماً. ويمكن إدراج بيان عائلة فادي بجّاني في هذا السياق. وإن كان تمايز العائلات الكبرى كأجسام اجتماعية مستقلّة عن الأحزاب في أحداث مماثلة أمرٌ معروف، لكنّه الآن، في ظلّ الأوضاع الحالية، يأخذ معانيَ أخرى.
والحال هذه فإنّ اتّهام الحزب الأحزاب المسيحية، وبالأخصّ القوات اللبنانية، بتوتير الأرض ضدّه، بناء على حادثة الكحّالة، هو اتّهام سياسي بالدرجة الأولى تناقضه وقائع “الميدان”، وكذلك تعاطي القوات مع الأحداث، سواء في الكحّالة أو حتى في عين إبل عقبَ جريمة قتل إلياس الحصروني. إذ تتصرّف القوات بحذر وتعتمد “low profile” في تعاطيها مع تلك الأحداث، وهو ما يدلّ على أنّها ليست في وارد الانخراط في تصعيد ميداني ضدّ الحزب. وموقف القوات هذا نابعٌ من حسابات دقيقة لديها باعتبار أنّ جرّها إلى “الميدان”، في ظلّ استمرار قدرتها على تسجيل نقاط سياسية ضدّ الحزب في المعركة الرئاسية، لا يجعلها تربح بل تخسر.
مفارقات أساسيّة
في المقابل تجمّعت في صدام الكحّالة مفارقات عدّة:
– فادي بجّاني الذي سقط في “المواجهة” مع مرافقي شاحنة الحزب، هو مقاتلٌ سابقٌ في “قوات إيلي حبيقة” التي تحوّلت إلى حزب “وعد” برئاسة نجله جو، الذي لم يكن طوال الفترة الماضية بعيداً عن “جَوّ” التيار الوطني الحر، ولا عن “جوّ” الحزب نفسه.
– تعمل ابنة بجّاني في قناة “أو تي في” العونية. وكلّ ذلك يجعل التيار معنيّاً بهذا الصدام أكثر من بقيّة الأحزاب المسيحية، خصوصاً في لحظة استئنافه الحوار مع الحزب، بعدما تعرّض تحالفهما وما يزال لاختبارات صعبة ضمن البيئة المسيحية. وقد أتت حادثة الكحّالة لتعطي هذه الاختبارات معنى مكثّفاً.
لذلك يمكن القول إنّ إشكال الكحّالة هو إشكال على ضفاف “تفاهم مار مخايل”، بمعنيَيْه السياسي والاجتماعي. وبمقدار ما تشكّل هذه النقطة امتحاناً جديداً للحزب الراغب في ترميم تحالفه مع جبران باسيل وإعادة تأكيد حرصه على العلاقة مع “المسيحيين”، تشكّل “فرصة” له لمعالجة مشكلته مع البيئة المسيحيّة، وبالتحديد بيئة التيار وروافده المسيحية.
حتميّة خيار الدولة
إذا كانت حادثة كوع الكحّالة قد أظهرت حالة احتقان شعبي مسيحي ضدّ سلاح الحزب، فإنّ كلّ المعطيات السياسية والاجتماعية و”الأيديولوجية” المتّصلة بها، من الانتماء السياسي لبجّاني، إلى حصولها في لحظة تقارب بين الحزب والتيار، إلى إعادة تظهير دور مقاتل الحزب الذي سقط فيها في الدفاع عن مسيحيّي معلولا بسوريا، كلّها معطيات سيحاول الحزب استخدامها لتطويق صدام الكحّالة وتالياً حالة الاحتقان ضدّه في البيئة المسيحية.
على الأرجح سيتحيّن الحزب الوقت المناسب لتقديم العزاء إلى عائلة بجّاني. وهو ما مهّد له تسريب خبر الأحد بهذا الخصوص، ثمّ نفيه لاحقاً من قبل الحزب. كذلك فإنّ حديث أمينه العامّ الإثنين عن أن لا مشكلة مع أهل الكحّالة، بالتوازي مع تأكيده أنّ الحوار مع التيار الوطني الحرّ جدّي وإيجابي، يصّب في الإطار عينه.
في المحصّلة لم يبدّل الحزب، قبل حادثة الكحّالة وبعدها، استراتيجيّته في خطب ودّ المسيحيين وإيجاد قابليّة له بينهم، وذلك لأسباب تتعدّى الواقع اللبناني نفسه وتتّصل باستراتيجية إيران على مستوى المنطقة ككلّ. لكنّه بعد تلك الحادثة سيبدي تصميماً أكبر على التجسير مع المسيحيين ومن بوّابات سياسيّة واجتماعية مختلفة. لذلك فإنّ تصوير الاحتقان في البيئة المسيحية ضدّ الحزب على أنّه احتقان نهائي سيفشل الحزب في التعامل معه وتخفيفه فيه الكثير من المبالغة ومجافاة الواقع.
أمّا من جانب الأحزاب المسيحية الخصمة للحزب، وبالتحديد “القوات اللبنانية”، فإنّ كلّ المعطيات المتّصلة بحادثة الكحّالة تؤكّد أنّ نقطة قوّتها الأساسية في خصومتها مع الحزب هي التمسّك بالدولة على الرغم من كلّ انهيارات هذه الدولة ومن محاولة الحزب جعلها صديقة له بالكامل. وهذا تناقض أساسي بين ما يجب أن تكون عليه الدولة وما يريد الحزب لها أن تكون عليه. لكنّه تناقض لا يجعل بدائل الدولة خيراً منها. لذلك كانت المعركة الرئيسية وما تزال ضمن الدولة نفسها لا خارجها!
ايلي القصيفي- اساس