حكاية انقلاب فرنسا على “الخماسية”والراعي وأزعور… و التحالف مع “الأقوى” !
لفرنسا حكاية طويلة مع الانقلابات على المواقف وعلى ما هو متّفق عليه مع الحلفاء. ربّما أسرع ما يتبادر إلى ذهن اللبنانيين حالياً هو الانقلاب الفرنسي على نتائج الاجتماع الخماسي الذي عُقد في 6 شباط 2023 في العاصمة الفرنسية باريس من أجل بحث الأزمة اللبنانية. إذ بعد الاجتماع الذي تحدّدت فيه مواصفات الرئيس الجديد للجمهورية انقلبت باريس لصالح تبنّي خيار سليمان فرنجية. لم يكن هذا الانقلاب الأوّل حيال لبنان، بل حصل بعده انقلاب عشيّة جلسة 14 حزيران الانتخابية. وحصل انقلاب آخر بعد اجتماع الدوحة الخماسي الذي عُقد أخيراً. وستأتي السطور اللاحقة على تفنيد هذين الانقلابين.
تاريخ الانقلابات الفرنسية طويل يمرّ على حقبة نيكولا ساركوزي والانفتاح على بشار الأسد والانقلاب على كلّ المواقف والثوابت الفرنسية، ولا ينتهي عند الانقلاب على الصيغة اللبنانية وطرح فكرة المثالثة في مؤتمر سان كلو، وطرح أفكار “الحوار” في الفترة الأخيرة.
يمثّل الانقلاب عنصراً أساسياً من عناصر سوسيولوجيا “السياسة الفرنسية”، وهذا غالباً ما يكون مرتبطاً بأصحاب السلطة، لا المجتمع الفرنسي الذي يجد نفسه دوماً في صراع مع تلك السلطة، ثقافياً، سياسياً، واجتماعياً. وهو ما يحدث أيضاً مع الرئيس إيمانويل ماكرون منذ وصوله إلى الرئاسة.
يمكن لهذه السطور البسيطة أن تضيء على جانب من جوانب “المركنتيلية”* الفرنسية في السياسة. تلك التي تتكرّر حالياً، وخصوصاً مع إيمانويل ماكرون، منذ زيارته روسيا ولقائه رئيسها فلاديمير بوتين عشيّة اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أو بزيارته الصين ودعوته إلى إعادة النظر في تركيبة النظام العالمي والبحث عن قواسم مشتركة، الأمر الذي أثار حفيظة الأميركيين. ومن قبل دخلت فرنسا في توتّر مع ألمانيا على خلفيّة طموحها في قيادة القارّة الأوروبية. قبل ذلك، حصل الافتراق الكبير بين الأميركيين والفرنسيين إثر الإصرار الأميركي على اجتياح العراق الذي رفضته باريس، وكانت محقّة في ذلك.
لبنان: التحالف مع “الأقوى”
في كلّ الأحوال وبعيداً عن كلّ هذه الاستراتيجيات الكبرى، وبالعودة إلى لبنان، لطالما تركّز التحالف الفرنسي مع الطرف الأقوى، لا مع المبدأ ولا مع ما ينسجم مع القيم الفرنسية. وهنا لا بدّ من الفصل بين السياسة وعالم الثقافة. ففي بدايات تأسيس لبنان الكبير، كانت نزعة تكريسه منطلقةً من نزعة تكريس حقوق الأقليّات في الشرق، فحظي الموارنة بدعم فرنسي مطلق، حتى حسِب البعض منهم أنفسهم فرنسيين. في حقبة ما بعد الحرب الأهلية تحالفت باريس مع أمر واقع كرّسته حرب الخليج الثانية برعاية أميركية وتفاهمات مع السعودية وسوريا، فكانت العلاقة الممتازة مع السُّنّة نسبياً. أمّا حاليّاً ومنذ عام 2007، فإنّ باريس تنحو باتجاه العلاقة مع الشيعية السياسية باعتبارها الأقوى والقادرة على تلبية المصالح، في صلة وثيقة الارتباط من لبنان إلى سوريا فإيران مروراً بالعراق، وطموحات متشابهة في أسواق النفط، والغاز، والاستثمار وإعادة الإعمار.
فما هما الانقلابان الأخيران؟
أصبحت معروفةً ركائز الانقلاب إثر اجتماع 6 شباط. لكن ما هو غير معروف حتى الآن الانقلاب عشيّة جلسة انتخاب الرئيس التي خاض فيها مرشّحان الانتخابات الرئاسية، إضافة إلى انقلاب آخر بعد اجتماع الدوحة الخماسي.
1- عندما تمّ تحديد موعد جلسة الانتخاب، ومضى جهاد أزعور في ترشيحه لرئاسة الجمهورية، كان ذلك مبنيّاً على اتفاق بين دول. ولا بدّ للرواية أن تُروى. ففي مواجهة إصرار الحزب على التمسّك بسليمان فرنجية، سعى المعارضون إلى التجمّع على مرشّح واحد تتوافر فيه مواصفات مطلوبة دولياً. حصل التقاطع بين غالبية القوى المسيحية وتيارات وأحزاب أخرى على اسم أزعور. كان الرجل حريصاً على التواصل مع الثنائي الشيعي، ومع الفرنسيين أيضاً. وأبلغ أنّه ليس مرشّح تحدٍّ لأحد. ما سمعه من الثنائي لم يكن بالحدّة التي ظهرت لاحقاً، ولم تكن المسألة مرتبطة بكلّ هذه المؤامرات التي اصطنعها الثنائي في محاولة اختراع خصم، أو مؤامرة دولية.
إثر التقاطع، تبنّى البطريرك الماروني بشارة الراعي هذا الطرح وباركه. وبناء عليه، حُدّدت زيارته لفرنسا مروراً بالفاتيكان. توجّه الراعي إلى هناك حاملاً اسماً واحداً، لا خمسة أسماء كما جرى الحديث. حصل الراعي على مباركة الفاتيكان وتوجّه إلى باريس للقاء ماكرون. أبلغه باسم جهاد أزعور، فعلّق الرئيس الفرنسي بأنّه خيار ممتاز، وبالتالي لا بدّ من الذهاب إلى جلسة انتخاب حتى الوصول إلى إنتاج رئيس. حصل الراعي على تعهّد فرنسي بالعمل في سبيل إبقاء المجلس النيابي مفتوحاً حتى إنجاز عملية الانتخاب. ونصح ماكرون الراعي بإبقاء التواصل والتنسيق مفتوحاً مع الحزب ونبيه برّي، وبناء عليه أوفد الراعي ممثّلين عنه إلى الأمين العام للحزب والرئيس نبيه برّي، على قاعدة أنّ المرشّح ليس مرشّح تحدٍّ ولا مواجهة، وأنّ التوجّه هو لاستمرار عقد الجلسات إلى حين خروج مرشّح فائز.
حُدّدت الجلسة، كان الأميركيون على الخطّ أيضاً. اتّصلت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند برئيس مجلس النواب نبيه برّي عشيّة الجلسة، على قاعدة أنّها جلسة انتخاب للرئيس ولن يتمّ تطيير النصاب أو تعطيله، بناء على التعهّد الفرنسي والاتفاق الذي حصل على مستوى دول. لذلك وصفت نولاند الاتّصال ببرّي بأنّه “بنّاء”، وذلك لاعتبارها أنّ الجلسة ستُستكمل. لكنّ الفرنسيين كان لديهم كلام آخر. قبل خمسة أيام، صدر قرار فرنسي بتعيين جان إيف لودريان مبعوثاً خاصّاً إلى لبنان، وذلك بهدف “التوفيق بين اللبنانيين للوصول إلى انتخاب رئيس”. كان لا بدّ من التقاط الرسالة بأنّ باريس انقلبت على تعهّدها وموقفها، إذ ما هي الحاجة إلى التوفيق والتفاهم بين اللبنانيين ما دامت الجلسة ستُعقد وستستمرّ إلى حين انتخاب رئيس؟
تبيّن فيما بعد أنّ فرنسا قد انقلبت على التعهّد، وسحبت يدها من الاتفاق، وهو ما دفع بجهات عديدة إلى الذهاب إلى التلويح بعقوبات، من بينها أعضاء مجلس النواب الأميركي الذين وجّهوا أخيراً رسالة إلى إدارة الرئيس جو بايدن طالبوا فيها بفرض عقوبات على رئيس مجلس النواب نبيه برّي باعتباره مكمّلاً للحزب. هذا الانقلاب الفرنسي أيضاً، هو الذي كان السبب في انزعاج دول الخماسية في اجتماع الدوحة، وكان تشديد على طرح فرض عقوبات واتّخاذ إجراءات.
الانقلاب الثاني… وموقف الراعي
2- أمّا الانقلاب الفرنسي الثاني فكان بعد الاجتماع الخماسي في الدوحة. خلاله شرح لودريان أنّ هناك صعوبة في الوصول إلى تفاهم بين اللبنانيين وحاول تمرير فكرة الحوار التي رُفضت بشكل مطلق من قبل السعوديين والأميركيين على قاعدة أنّ الأولوية هي لانتخاب رئيس للجمهورية لا للحوار، فكان البيان العنيف الصادر عن الاجتماع، والذي يتعارض في طيّاته مع المسار الفرنسي. فيما كان التناغم السعودي الأميركي واضحاً إلى حدود بعيدة في رفض المقاربة الفرنسية كلّها. بعد الاجتماع زار لودريان لبنان مجدّداً، وأصرّ على طرح فكرة التشاور أو طاولة العمل، التي يصفها رئيس مجلس النواب بأنّها “طاولة حوار” واستخدم عبارة: “هناك حوار في أيلول وصدّقوني”. وبدا ذلك وكأنّه استمرار فرنسي على النهج ذاته المتعارض مع توجّه غالبية دول الخماسية.
خلال زيارته بيروت، ضجّت الكواليس السياسية بأنّ لودريان نصح باسيل والحزب معاً بضرورة الذهاب إلى تفاهم بينهما، وذلك لتجنّب ما يمكن أن يتأتّى من ردود فعل الدول الأخرى. البطريرك الراعي ذكّر لودريان بتعهّد ماكرون والتراجع عنه، لكنّ المبعوث لم يجِب. ربّما هذا ما يبرّر تأكيدات البطريرك الراعي المتوالية أنّ هناك مرشّحَين لرئاسة الجمهورية وعلى مجلس النواب الانعقاد لانتخاب أحدهما. ففي هذا الإصرار تجاوز من قبل الراعي لأيّ طرح جديد، وذلك لأنّه يعتبر أنّ هناك اتفاقاً جرى الانقلاب عليه.
*المركنتلية: نظرية اقتصادية ترى أن السبيل إلى القوة السياسية تمرّ عبر زيادة الصادرات، لتركيز الأموال داخل الدولة، وتقليل الواردات لأنّها تثري الدول المنافسة.
خالد البواب- اساس