الأخلاق مرتبطة بالأعضاء التناسلية… ولا تطال السرقة والتزوير ومص دماء الشعب!
بين كوع الكحّالة و”باربي” وتقرير “ألفاريز ومارشال”
حدثان بارزان شغلا اللبنانيين خلال الأيام الماضية، ومن خلالهما مر حدث ثالث فائق الأهمية مروراً عابراً تقريباً.
الحدث الأول هو حادثة انزلاق شاحنة أسلحة تابعة لـ”حزب الله” على كوع الكحالة الشهير، بكونه مصيدة للشاحنات، والأهم بكونه رمزاً من رموز مقدمات الحرب الأهلية. فعند هذا الكوع انفجرت عام 1970، بين ما سُمّي حينها اليمين اللبناني المسيحي والفلسطينيين، شرارة التمهيد للانفجار الكبير بعد خمس سنوات شهدت الكثير من التوترات والاشتباكات المتنقلة بين الفلسطينيين وأحزاب اليمين والجيش اللبناني.
كشفت حادثة الكوع التي قتل فيها أحد أبناء البلدة ومقاتل من “حزب الله”، أن البلد هش إلى حد التفتت، وأن الأيدي على الزناد والطلقة في بيت النار. هكذا تبدأ الحروب.
الحدث الثاني الذي شغل اللبنانيين هو فيلم “باربي” الذي أظهر الانقسام الثقافي الكبير بين اللبنانيين، حتى لو لم يكن انقساماً طائفياً، رغم محاولة البعض إلباسه هذا اللبوس.
الحدثان أشعلا حرباً مقيتة على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزيون. مراسلون ومراسلات وضيوف متوترون وكلام أسمّ من الرصاص على “تويتر” و”فايسبوك”. دعوات صريحة إلى القتل واتهامات متبادلة بالخيانة والعمالة والتخريب. حرب نفسية استخدم فيها المتحاربون كل مخزون الحقد الدفين واستحضروا خطاب الحرب الأهلية وأضافوا عليه مفردات وعناصر أكثر عنفاً.
كانت حادثة الكوع مريعة بتداعياتها، ولا شك في أنها ستعيد تشكيل الواقع السياسي والأمني في البلد. وبغض النظر عن ماهية سلاح الشاحنة ووجهته، فإن مرحلة جديدة ستبدأ في لبنان. من لم يتسلح بعد فسيتسلح ولن يمنعه أحد. السلاح يجر السلاح واللبنانيون شعب عاطفي ينقاد بسهولة لشعار “يا غيرة الدين”.
مرت الحادثة وتم تطويق ذيولها الآنية بالسياسة، لكنها ستتفاعل. ما بعدها ليس كما قبلها. ربما كان المسيحيون ينتظرون مثل هذه الحادثة لتأكيد نظريتهم حول خطورة سلاح “حزب الله”، وربما كان الحزب ينتظرها ليقول للجميع إن السلاح ليس موضوع مساومة، وإن السلاح يحمي السلاح كما ظهر في شعارات تشييع عنصره الذي سقط في الكحالة.
أما “باربي” فأثار فيلمها حفيظة جمهور كبير، باعتبار أنه يروّج للمثلية الجنسية ويدمّر الأخلاق والمجتمع ويناقض الأديان السماوية، وهو ما دعا وزير الثقافة عباس المرتضى إلى منع عرض الفيلم في صالات السينما. ومرة جديدة اندلعت حرب الحرية والقمع على مواقع التواصل الاجتماعي، وتبادل المختلفون أقذع النعوت. وربما فات الجميع أن الفيلم الذي مُنع في الصالات سيكون متوافراً قريباً بين أيدي كل الناس، أطفالاً وكباراً. مسكينة “باربي” منذ ولدت دمية وهي تستغل وتثير المشكلات حولها، وتتلقى الانتقادات بالتمييز والعنصرية والرأسمالية والانحطاط والتفاهة، والآن بالترويج للرذائل. مرذول من يدافع عن الفيلم ومتهم بالانحياز إلى المثلية “المرذولة”، ومرذول من يهاجم الفيلم ومتهم بالقمع والتخلف. إذا لم ينقسم اللبنانيون ويشتبكوا طائفياً انقسموا واشتبكوا ثقافياً، ويا ليت كل انقساماتهم على شكل انقسامهم على فيلم اعتبره كثر من النقاد لا يستحق كل هذا الجدل.
في ذروة الانشغال بحادثة الكوع وفيلم “باربي”، صدر التقرير الأولي لشركة “ألفاريز ومارشال” حول التحقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، وتداولت بعض وسائل الإعلام مضمونه الذي يشكل في الحد الأدنى فضيحة.
مر التقرير كحدث عادي جداً على مواقع التواصل الاجتماعي، لم يثر حمية الذين كانوا قبل يومين يملأون الفضاء الافتراضي رعيداً وتهديداً بالويل والثبور وعظائم الأمور. لم ينظر رواد مواقع التواصل إلى الأمر إلا باعتباره خبراً عادياً من مسلسل الأخبار السيئة التي تقض مضاجعهم كل يوم.
جاء التقرير ليؤكد المؤكد عن فساد حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة وعصابته، وتواطؤ الطبقة السياسية معه ومشاركته المغانم على حساب المودعين وعامة الشعب اللبناني. سكت الذباب عن الطنين وخرست أفواه الشتامين والمحرضين ومدعي الوطنية، وكأن التقرير عن جزر الواق واق وليس عن بلدهم وحياتهم ومستقبلهم.
قد يكونون يئسوا أو تعودوا وتكيفوا، ولكنهم هذه المرة اتفقوا. اتفقوا لأن “معلميهم” في الدق. لقد كشف التقرير بالأسماء استفادة الطبقة السياسية بمجملها تقريباً، من هندسات رياض سلامة، مباشرة أو عبر مؤسسات فنية وخيرية وما شابه. وما نشر هو رأس جبل الجليد من الفساد السياسي والمالي الذي أودى بالبلد إلى الهاوية.
لم تكن حادثة الكوع ولا ضجة “باربي” مفتعلتين للتغطية على التقرير، لكنهما فعلتا ذلك، أو بالأصح تم استغلالهما في ذلك، ومر التقرير الذي لو كان صدر في بلد حقيقي لأطاح كل الطبقة الحاكمة، من فسد منها ومن لم يفسد. وهكذا أبداً تمضي آمال اللبنانيين بالإصلاح. وتبقى الأخلاق مرتبطة فقط بالأعضاء التناسلية ولا تطال السرقة والتزوير ومص دماء الشعب وتبذير ماله.
راغب جابر- النهار العربي