التوتر والشحن الطائفي في ذروته: لا تقرعوا أجراس المواجهة المسيحية – الشيعية!

إنزلاق الوضع الأمني على “كوع الكحالة”، بما نتج عنه من تداعيات، وردود فعل، وإنفعالات غرائزية، وتأجيج للشحناء الطائفية (!) جسّد صورة تختصر الواقع اللبناني البالغ الخطورة، ومدى حجم الانقسام الطائفي والسياسي الحاد، بما يخبئ من كراهية وضغينة بين المكونات اللبنانية، وكأن التعايش والتعدد باتا مستحيلين، والوحدة الوطنية سقطت إلى غير رجعة.

هذه الحادثة بالغة الخطورة إن لجهة توقيتها، أو لجهة مسرحها، أو لجهة تداعياتها وتهديدها للسلم الأهلي! فبلدة الكحالة برمزيتها في الوجدان المسيحي، وعلى الرغم من أنها كانت نقطة الانطلاق المركزية لمصالحة الجبل التاريخية برعاية البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، كادت أن تكون عقب ما شهدته من أحداث، شرارة تنذر بفتنة طائفية، تستحضر أجواء التعبئة التي مهدت للحرب الأهلية العبثية والمدمرة.

التأزم اللبناني، لم يكن يحتاج إلى حادثة الكحالة، حتى يظهر حجم الاحتقانات الدفينة في النفوس والسلوك، خصوصاً وأن السلاح المتفلت والخارج عن سيطرة الدولة ينتشر في البلد ما يدفع الناس المحقونين الى الانزلاق لشهر أسلحتهم في مواجهة بعضهم البعض. فلبنان الممزق سياسياً وطائفياً، والذي يعاني من هشاشة الوضع الأمني، على الرغم من الجهود الجبارة التي تبذلها الأجهزة الأمنية، ومع التمادي والإمعان في الفراغ والتعطيل، يشهد تباعاً أحداثاً وتوترات على غرار ما حصل في الكحالة، تنذر كل مرة بإحتمالية إندلاع حرب أهلية جديدة، قبل أن يتم إستيعابها وإبطال فتيل تفجيرها على الطريقة اللبنانية.

لكن تلك التطورات الأمنية المتكررة والمتنقلة، تؤكد بما لا يقبل الشك أن الأحزاب (الطائفية) لا تزال عقيدتها أسيرة للعسكرة الميليشياوية التي تعود الى زمن الحرب، بحيث أنها تفرض سيطرتها على مناطق وجودها ونفوذها (العددي)، وتسلمها زمام الأمن والنظام الذاتيين فيها، مع تحويلها إلى “غيتوات” مغلقة ومقفلة سياسياً وسكنياً وعقارياً.

غير أن الخطر الكبير، لم ينتج عن الحادث نفسه، على الرغم من خطورته، لا سيما وأنه يشكل سابقة تثير قلقاً كبيراً، وينذر بعواقب لا يمكن لأحد أن يلجمها، لكنه تمثل في غياب المعالجة المسؤولة والعاقلة للحادث، وذلك لانعدام الحس الوطني عند كل الفرقاء اللبنانيين، الذين يغلبون عليها مصالحهم الشخصية وعصبياتهم الفئوية. فكل البيانات والردود التي صدرت عنهم بشأن ما حصل، كانت عالية النبرة ومتوترة، من دون أن تخلو من لهجة التهديد والوعيد بمزيد من التصعيد السياسي في المواقف، بما يدفع الى الاعتقاد أن هؤلاء الفرقاء، كانوا ينتظرون حدثاً أمنياً بارزاً، كتوقيت ملائم للاعلان عن “تمترس” سياسي بسقف عال، إزاء إنسداد الأفق السياسي.

لو بقيت هذه المواقف التصعيدية في إطارها السياسي، لكان من الممكن أن تطوى كسابقاتها، ثم تتراجع الخطابات، وتهدأ النفوس، لكن خروج هذه المواقف عن إطارها السياسي، لتتحول إلى صراع طائفي (شيعي – مسيحي) بصورة علنية، يُظهر حجم الاحتقانات الدفينة، التي لا يمكن تجاهلها وطمر الرؤوس في الرمال، من دون البحث الجدي في تنفيسها وإبطال مفاعيلها الكفيلة بتدمير ما يمثله هذا البلد من معنى وجودي للجميع.

وما زاد من منسوب القلق، سرعة إستنفار النفوس على الأرض وعلى شبكات التواصل الاجتماعي في فيض من الاتهامات وكيل النعوت والتهديدات، بجمل طائفية من المكونين اللبنانيين اللذين كانا طرفي المواجهة الميدانية والسياسية والاعلامية.

كشفت حادثة الكحالة حجم الرفض المتبادل بين مختلف الأطياف والبيئات، وتحديداً المكونان المسيحي والشيعي، بحيث أن البيئة المسيحية استنفرت لتعبّر عن رفضها لسلوك “حزب الله”، ولثقافته وإيديولوجيته، التي ترى فيها نسفاً للتركيبة اللبنانية الثقافية والسياسية والأمنية والديموغرافية والعقارية، بهدف نسف لبنان الكيان والرسالة والوظيفة التمايزية في المنطقة، إمتداداً للمشروع الفارسي التوسعي في المنطقة. في المقابل فإن البيئة الشيعية رأت في ردود الفعل المسيحية مؤامرة على سلاح المقاومة بإملاءات أميركية تخدم مصالح العدو الإسرائيلي.

هذه حقيقة مؤلمة لكنها تعكس الواقع الذي يعيشه اللبنانيون، وعلينا الإقرار والإعتراف بجرأة ومسؤولية وطنية، بأن ما بلغه التوتر والشحن الطائفي من ذروة قياسية خلال حادثة الكحالة وفي أعقابها، ينذر بقلق كبير على السلم الأهلي، خصوصاً وأن ما صدر من مواقف تصعيدية يؤسس لمرحلة جديدة من المواجهة المسيحية – الشيعية المتضخمة إلى حدود التهديد بإثارة مناخات طائفية حادة، تجعل من التعايش أمراً مستحيلاً، ما سيعيد الطرفين الى المطالبة كل واحد وفقاً لمصالحه الفئوية بإنتاج عقد إجتماعي سياسي جديد، بعدما بات “الطائف” من وجهة نظرهما غير قادر على تكريس صيغة التعايش بينهما!

بناءً على هذا الخطر الحقيقي، المطلوب مما تبقى من حكماء وعقلاء التدخل الفوري والسريع لوقف الجنوح الطائفي المجنون، ومنع الأجراس والطبول من أن تقرع لمواجهة مفتوحة بين المكونين المسيحي والشيعي، إحتواءً للتضخم الطائفي السرطاني، وحفاظاً على السلم الأهلي الهش، بإنتظار أن تتهيأ الظروف المحلية والخارجية للأزمات اللبنانية على إختلافها، وفي مقدمها الأزمة البنيوية.

زياد سامي عيتاني- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة