عادل إمام.. شاهد شاف كل حاجة

تتواصل في القاهرة، أيام الدورة السادسة عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري، وتحمل اسم عادل إمام، وقد خصّت إدارة المهرجان الممثل المصري الكبير باحتفالية كبرى، ومن ضمن فعالياتها أصدار كتاب، كلفت وزارة الثقافة المصرية كاتب هذه السطور بتأليفه وعنوانه “عادل إمام… شاهد شاف كل حاجة”، فضلاً عن مائدة مستديرة في المجلس الأعلى للثقافة المصري ظهر الثلاثاء الأول من آب حول الكتاب والفنان المحتفى به…

وعادل إمام يذكرك بالنهر الذي يعيد خلق دلتاه كلما مر به العمر، ويثبت دائما أنّ الموهبة حينما تقترن بالذكاء تضيف لصاحبها الشباب الدائم والنجاح المستمر. حاول أن تذهب بذاكرتك أيها القارئ إلى أبعد زمان منذ أن عرفت مصر والمنطقة العربية فن التمثيل، انعش خيالك، وامعن النظر، ضع كل معايير الأهمية والأفضلية، التأثير والإثراء، الشهرة والحضور، عقبات المشوار الطويل وسنوات البقاء على القمّة، حب الجماهير وحالة الاحترام لفنّه ولشخصه، القيمة المادية والفنية وعمق التجربة، دوره المجتمعي ومواقفه السياسية. فكّر وتأمل، ثم أجب عن السؤال: من الاسم الأكثر شهرة وحضوراً على مدى تاريخ فن التشخيص؟ إنه اسم واحد لا خلاف عليه: عادل إمام.

قد تكون هناك أسماء لمعت وبرزت، وتمتّعت بالموهبة، وحظيت ببعض مما لديه، لكنها لم تجتمع على هذا النحو من الوضوح مثلما اجتمعت عند عادل إمام، ولذلك بقى، وسوف يبقى. وأظنني لا أبالغ إذا قلت إن هذا كله كان من الممكن أن يتبدّد لو لم يلتحق عادل إمام بالناس، فهو ابن شوارع كما يعبّر عن نفسه بخفة دمه المعهودة، ومن أتى من بين الناس يصبح من السهل عليه الوصول إليهم والتأثير فيهم… يقول الروائي نجيب محفوظ معلقاً على تجربة عادل إمام: “الشارع لا يختار إلا من ينجح في ضبط أوتاره على أفراحه وأحزانه، وهذا ما فعله عادل إمام”.

هكذا عرف عادل إمام موجة البث المناسبة، أجاد الإرسال، فأحسن الناس الاستقبال. ويوم ذهب إلى أسيوط العام 1987 للرد على دعاوى الردة والتخلّف واستقبله عشرات الألوف من أهالي الصعيد، سألته: ألست خائفاً من أن تطاولك يد الغدر؟ أجاب بأن من يحيطه حبّ الناس لا يخشى إلا رب الناس، وهذا ذكرني بمشهدين من أفلامه في غاية الرمزية والنضج كتبهما الراحل وحيد حامد ولا أعتقد أن عادل كان بعيداً عن صياغتهما، خاصة وأنهما أتيا بالفعل بعد رحلة أسيوط بسنوات قليلة، المشهد الأول في نهاية فيلم “الإرهاب والكباب” سنة 1992 حين خرج أحمد فتح الباب (عادل إمام) المتّهم باختطاف مجموعة من الرهائن داخل مجمع التحرير في وسط القاهرة، متدثراً ومحتمياً بمن كانوا مخطوفين قبل ثوان، ثم يكتمل المعنى حينما يسأله أحد الصحافيين وهو وسط زحام الناس عن أوصاف الإرهابي المعتوه، فيجيب: “هو لا طويل ولا قصير، ولا تخين ولا رفيع، ولا أبيض ولا أسود.. هو زينا كده”.

المشهد الثاني في نهاية فيلم “المنسي” العام التالي مباشرة – ويا لسحر النهايات في أعمال عادل إمام – حين همّ كرم مطاوع ورجاله بإطلاق النار على يوسف المنسي (عادل إمام) لكنه توقّف عندما خرج أهل القرية مع إشراقة الصباح لقضاء حوائجهم الاعتيادية، فتراجع المنسي خطوات ثلاث إلى الخلف كي يحتمي بهم.

لقد أدرك عادل إمام أنّ الناس هي كلمة السر في أي نجاح يريد تحقيقه، فالأحلام – على حد قوله في نهاية مسرحية “الزعيم”… “مش عاوزة فوارس، الأحلام بالناس تتحقق”، ومن منطلق هذه القناعة الراسخة وإيمانه بالناس، بادلوه هم أيضاً حباً بحبٍ وتقديراً بتقديرٍ، وأنا على يقين من أن لقب “أغلى نجم في مصر” الذي مُنح لعادل إمام، لم يكن المقصود به فقط أنه الأغلى أو الأعلى أجراً، بقدر ما كان يعني أنه الأكثر “غلاوة” ومحبّة عند الناس.

الأمر الآخر الذي ضمن لعادل إمام الحفاظ على مكانته الخاصة طوال كل هذا السنوات هو قدرته اللافتة على إدارة موهبته، أو بالأحرى إدارة نجوميته، وهو في ذلك تلميذ نجيب لأستاذه وصديقه عبد الحليم حافظ، إذ عرف عادل إمام متى يتقدّم ومتى ينسحب، متى يقبل ومتى يرفض، متى يظهر ومتى يختفي، متى يرد على الشائعات ومتى يتركها تتبخر من تلقاء نفسها. بمعنى أدق متى يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. خذ لذلك مثالين فقط في مشوار عادل إمام الطويل، أولهما حينما عرض عليه المنتج سمير خفاجي الاشتراك مع بقية المشاغبين في مسرحية “العيال كبرت”، على أثر النجاح الساحق الذى حققته “مدرسة الشاغبين”، لكنه اعتذر مؤكداً أنه فات بالنسبة له أوان البطولة الجماعية، وجاء وقت البطولة الأولى المنفردة، فكانت مسرحية “شاهد ما شافش حاجة” التي قادته – في نظري – إلى كل ما وصل إليه بعد ذلك، المثال الآخر وهو يستحق التأمل إذ لم يعلن عادل عن أي موقف سياسي له أو حتى عام إلا بعد أن أصبح نجم النجوم مع توالي سنوات الثمانينيات، صحيح أنه تعاطى بعض السياسة في صباه وشبابه، إلا أنه كان أقرب إلى المراهقة الفكرية والسياسية، أما مواقفه تجاه الإرهاب والتطرف وإسرائيل ومشاركته في أنشطة الأمم المتحدة وصداقته مع الملوك وقادة الدول وما إلى ذلك، فكل هذا جاء بعد أن رسخت دعائم دولته الفنية، وكأنه لم يكن قبل ذلك راغباً في تشتيت ذهنه وجهده في أمور قد تأخذ من سعيه نحو الهدف المنشود، فإذا ما اطمأن، راح يعبّر عن ذاته في القضايا التي تهمه وتهم الناس.

وعادل إمام غير المنفصل عن هموم وطنه، لا يحمل على كتفيه فقط مسيرته الحاشدة، وإنما هو في ذاته تاريخ أمة. عاش وانغمس، شاهد وتفاعل، لم يأخذ موقف المتفرّج في حياته، بل كان إيجابياً إلى أقصى درجة، ولذلك عندما فكرت في عنوان لهذا الكتاب لم أجد أفضل من “شاهد شاف كل حاجة”، فالكتاب يطوي بين ضفتيه مسيرة رجل لم يكتف بالفرجة، بل كان منفعلاً ومتفاعلاً مع كل حدث مرّت به مصر والمنطقة العربية، بل ومشاركاً أحياناً في صنع بعضها، فضلاً عن أن أعماله الفنّية كانت عاكسة لكافة التطورات والمراحل التي مرت بها مصر.. في مرحلة الستينيات – مثلاً – حينما أعلت ثورة يوليو/ تموز من قيمة التعليم، وخلقت طبقة متوسطة مثقفة أخذت ترتقي إلى المناصب المهمّة، قال عادل إمام على لسان دسوقي أفندي وكيل المحامي في مسرحية “أنا وهو وهي”، أول أعماله المسرحية التي شاهدها الناس قولته الشهيرة: “بلد بتاعة شهادات صحيح”، وعندما كان المجتمع يعيش حالة من انعدام الوزن وغياب القدوة في أعقاب هزيمة يونيو/ حزيران قال بهجت الأباصيري في “مدرسة المشاغبين” عام 1971: “الحكاية مش حكاية خمسة منحرفين، الحكاية حكاية المجتمع اللي ورا الخمسة المنحرفين”، في فيلم “المحفظة معايا” سنة 1978: “همه عشرين جنيه ح يعملولي أيه؟ انتم فاكريني عيل متخرج من الجامعة؟!” ولما اشتدّت أزمة الإسكان مع انتصاف الثمانينيات قال على لسان المهندس شريف المصري في “كراكون في الشارع” سنة 1986: “أحنا مش عاوزين حاجة من الحكومة، احنا عاوزين الأرض الصحراوية ولو بسعر رمزي بدون مشاكل أو روتين”، ثم هو أيضاً الذي قال في “اللعب مع الكبار” على لسان حسن بطل الفيلم: “أنا حسن بهنسي بهلول، أنا المسكين في هذا الزمان، أنا المحاط بالأوهام، أنا الذي إذا جاع نام، أنا المخدوع بالكلام، كويس أن أبو الهول والأهرام لسة ما اتسرقوش، هو لازم كل حاجة تبقى حجارة عشان ما تتسرقش! “ألم يوجز في “السفارة في العمارة” عام 2005 موقف المصريين من التطبيع حينما قال: “إحنا لا سلام ولا كلام مع العالم دول. صباح الخير يا جاري انت في حالك وأنا في حالي”، ثمّ يختزل رأيه في هذا العصر الذي نعيشه بعبارة موجزة في فيلم “عمارة يعقوبيان” عام 2006 حينما صاح صيحته الشهيرة: “احنا في زمن المسخ”. باختصار: لقد كان عادل إمام فنياً وإنسانياً “شاهد شاف كل حاجة”.

المدن

مقالات ذات صلة