ماذا يخبئ أيلول؟
يعرف “حزب الله” أن أحداً على مستوى العالم لا يبدي ما يكفي من الرغبة أو يكرّس ما يكفي من الوقت للمساعدة جدياً في حل الأزمات المتفاقمة في لبنان وفي مقدمها الأزمة الرئاسية.
ويعرف أيضاً أن أحداً في لبنان لا يشكل “حيثية استراتيجية” مهمة الى الحد الذي يستأهل تدخلاً عسكرياً خارجياً من أجله كما حدث في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.
وأكثر من ذلك، يعرف “حزب الله” أن المسار التدريجي الذي اتبعه منذ انطلاقته في العام ١٩٨٢، وعلى كل المستويات الأمنية والعسكرية والمالية والعقائدية والجغرافية، بدأ يؤتي ثماره، وأن ما ينقصه هو فقط الوقوف أمام أئمة ايران والقول: “لقد تم الأمر وجعلنا من لبنان جمهورية اسلامية ثانية غير معلنة”.
وليس في هذا الأمر ما لا يصح أو ما لا ينطبق على الواقع، اذ ان قراءة بسيطة لهذا اللبنان تكفي ليدرك من عايشه جيداً أنه بات من عالم آخر وفي عالم آخر.
ويكفي أيضاً أن نسأل ماذا بقي من المقومات الستة التي ميزت لبنان على مستوى الحرية والتعايش والثقافة والتنوع والسمعة والأمان؟
الجواب من دون تردد: ليس الكثير، اذ نجح من نجح أولاً في تدمير نظامه المصرفي، ثم ثانياً في تهميش نظامه التربوي، ثم ثالثاً في تفريغ نظامه الصحي، ثم رابعاً في تهجير نخبه الانفتاحية والثورية، ثم خامساً في تحريف دستوره ونظامه الديموقراطي، ثم سادساً في ضرب نظامه السياحي، من خلال تحريم الكحول وثياب البحر والموسيقى في الكثير من المناطق الصافية والمختلطة معاً.
ويشكل ما يتعرض له الجيش، الضربة السابعة وذلك من خلال أمرين أساسيين: السيطرة أولاً وفي صورة كبيرة على الكثير من مفاتيحه القيادية، والعمل ثانياً على الحؤول دون تسليحه في شكل جدي من خلال تسويق مخاوف من أن أي سلاح متطور يحصل عليه قد يقع في يد “حزب الله” ويتحول الى سلاح ضد اسرائيل.
وثمة أمر ثامن لم يعد خافياً، وهو استغلال ضائقة الناس للتمدد عقارباً من خلال شراء الأراضي، واستغلال التباينات المذهبية والطائفية في بعض المناطق الحدودية والجردية للسيطرة على القمم والمواقع الاستراتيجية كما يحدث في القرنة السوداء وجرود العاقورة وسواها.
وتكشف مصادر ديبلوماسية وسياسية أن ما يجري على الحدود الجنوبية ليس الا محاولة في العلن من “حزب الله”، لافهام اسرائيل ومعها الولايات المتحدة، أن أي تعرض للمنشآت الايرانية لن يمر على خير، وافهام الرأي العام أن سلاح “المقاومة الاسلامية” لا يزال حاجة أمنية حيوية وضمانة وحيدة وحصرية لأمن الناس وسيادة البلاد، والسعي في الكواليس الى ترسيم الحدود البرية مع اسرائيل على غرار الحدود البحرية، والدخول في هدنة كافية تسمح بالسيطرة الشيعية على لبنان من دون استفزاز الدولة العبرية.
لكن كل ذلك، لا يدفع “حزب الله” الى تبني واحد من أمرين: الأول المجاهرة بالسيطرة الكاملة على لبنان والتلطي خلف رئيس مسيحي حليف في بعبدا ورئيس سني حليف أو مطواع في السراي، والثاتي القبول بأي نوع من التقسيمات الادارية أو الجغرافية على غرار اللامركزية أو الفديرالية وسواها من التسميات، ليس حرصاً على مساحة الوطن وحدوده، بل خوف من قيام مجمعات معادية من جهة أو عاصية على السيطرة أو الانفلاش من جهة ثانية.
وهنا لا بد من سؤال جوهري: ألم يبني “حزب الله” جمهوريته الاسلامية المنشودة في المناطق التي يشكل الغالبية فيها وعلى كل المستويات العقائدية والتربوية والصحية والمالية والادارية والأمنية والعسكرية، فلماذا يعترض اذاً على ما يمكن أن يقوم في مناطق أخرى؟
والجواب أنه قد فعل كل ذلك حيث تمكن، لكنه لن يخاطر في تمرير توزيعات سكانية من نوع آخر تزعج أو تناقض أو تمنع مستقبلاً قيام الجمهورية العتيدة أو تفكك الهلال الشيعي المنشود، سواء كانت هذه التوزيعات مسيحية أو سنية أو درزية.
وتكشف مصادر قريبة من الضاحية الجنوبية أن حسن نصر الله لا يمكن أن يعطي النائب جبران باسيل اللامركزية الادارية الموسعة كنظام دائم في مقابل ولاية رئاسية من ست سنوات، مشيرة الى أن الرجل، أي باسيل، يحاول تحقيق واحد من هدفين، الأول الحصول على “هدية” معنوية ثمينة في مقابل ترئيس سليمان فرنجية، وذلك لاسكات شارعه أو ارضائه، أو وضع “حزب الله” في زاوية صعبة يختار فيها اما “نصف السلطة” واما السلطة الكاملة.
وتذهب المصادر بعيداً الى حد القول ان ما عرضه باسيل ليس سوى ترجمة متأخرة لنتائج زيارة الرئيس ميشال عون الى دمشق ولرغبة الرئيس بشار الأسد في ترئيس فرنجية، مشيرة الى أن باسيل أيقن أنه ليس في وضع يسمح له بقطع الجسور مع نصر الله والأسد معاً، خصوصاً بعدما يئس من احتمال فك العقوبات الأميركية عن كاهله.
من هنا، يمكن تفهم الاصرار على انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية تحت شعار “حماية المقاومة وظهرها”، وهو اصرار لن يتزحزح داخلياً ما دام “حزب الله” لم يحصل على الرئيس والسلطة معاً، ولن يحتمل أي مساومات الا عندما تحصل ايران على كل أو معظم ما تريده من أميركا والسعودية وحتى اسرائيل، وكل كلام آخر عن التمسك بالتنوع أو الانفتاح على مبادرة فرنسية أو خماسية أو سواها ليس الا شراء للوقت وامعاناً في امتصاص ما تبقى من قوى تسهم في صمود لبنان ومن بقي من شعبه.
ومن هنا أيضاً يمكن القول ان المعارضة تسعى الى مكان آمن لا يمكن الوصول اليه في ظل الظروف الراهنة، وان قوى الممانعة تصر على البقاء في مكان لا يمكن التخلي أو التنازل عنه في ظل الظروف الراهنة أيضاً.
انه الكباش الهوائي الذي يبقي حال المراوحة على حالها، فلا هذا الفريق يسعى الى حل ولا ذاك الفريق يحمل أي حل، في وقت ينشغل العالم بملفات ساخنة تشبه ما سبق الحرب العالمية الثانية، تبدأ بالحرب في أوكرانيا، والتوتر الأميركي – الروسي – الايراني في سوريا والخليج، والتنسيقات العسكرية الروسية – الصينية، والاحتضان الروسي – الصيني لترسانة كوريا الشمالية واستفزازاتها العسكرية، وانتهاء بما يجري في السودان والنيجر ومناطق أخرى في القارة السمراء.
وحيال هذا المشهد، يذهب مصدر ديبلوماسي غربي بعيداً الى حد القول ان الأمر يرتبط أيضاً بمواقف الكونغرس الأميركي المقبلة من موضوع العقوبات القديمة والجديدة على طهران، وقد يمتد الى أجواء الانتخابات الرئاسية الأميركية تماماً كما حدث قبيل انتخاب ميشال عون رئيساً، وان ما يتردد عن حل محتمل في أيلول وفق المقاييس الفرنسية، لا يستهدف مشكلة الرئاسة في بعبدا بقدر ما يرتبط بنتائج الحفر في البلوك التاسع.
ويضيف: ان سلاح الغاز وحده سيحمي لبنان اذا وُجد وليس سلاح “حزب الله” أو أي سلاح آخر. ويختم قائلاً: لولا هذا الأمر لكان لبنان في قبضة ايران في شكل مطلق أو موطناً نهائياً للاجئين السوريين. انني أدعو الى الله أن يبتل طرف أيلول بلفحات من الغاز كي يتذكر العالم أن هناك “دولة مغرية” على خارطة الكون تدعى لبنان.
انطوني جعجع- لبنان الكبير