“الساحر” سلامة يغادر الحاكمية محصّناً بالصندوق الأسود للأسرار… و”الخزنة الفولاذية”!
سمّي “الصندوق الأسود” و”الخزنة الفولاذية”، لما يختزن من معلومات ووقائع وخبايا وخفايا وأسرار، تختصر ثلاثة عقود، تنوعت مساراتها من الحرب إلى السلم، وما بينهما من معارك وخضات وأزمات، لا سيما وأنه رافق من موقعه أربعة رؤساء جمهورية وسبعة رؤساء حكومة وستة مجالس برلمانية منتخبة، حتى بات شاهداً ومواكباً لمختلف التحولات الكبرى في تاريخ لبنان ما بعد إتفاق الطائف، بدءاً من فترة السلم والازدهار، وصولاً إلى الإنهيار المالي الكبير.
كما أطلق عليه إسم “الساحر”، الذي بدا في فترات، وكأنه صانع عجائب في الفضاء النقدي والمالي، قبل أن ينقلب السحر عليه وعلى الوطن بأسره.
إنه رياض سلامة… الشخصية المثيرة للجدل، والملتبسة والغامضة، التي يتمتع صاحبها ببرودة أعصاب خارقة، وبصمت مطبق، يعرف متى يخرج منه، لينطق بعدد من الجمل المقتضبة، التي يجيد إختيارها بدقة.
في كل دول العالم، يعيّن مدير عام للبنك المركزي، ما عدا لبنان، فهو حاكم لمصرف لبنان! وقد عرف رياض سلامة أن يتحول إلى الحاكم الأقوى في الجمهورية اللبنانية، حيث إعتبر “مهندس” النموذج النقدي والمالي في البلد ما بعد الحرب اللبنانية وأحد أهم أركان نظامه وثوابته، ما دفع البطريرك الماروني إلى إعتباره “خطاً أحمر”.
التركيبة السلطوية اللبنانية ما بعد إتفاق الطائف، عرفت شخصيتين بأنهما من الركائز الثابتة لها، هما: رئيس المجلس النيابي نبيه بري وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. فسلامة إلى جانبه بري، الشخصان الوحيدان اللذان شغلا منصبيهما طيلة حقبة ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، عبر تجديد ولايتهما بصورة متتالية من دون إنقطاع، وباتا يتربعان معاً في المرتبة الأولى عالمياً كأطول مدة زمنية في حاكمية المصارف المركزية ورئاسة البرلمانات في العالم.
وقد كسر سلامة الرقم القياسي الذي سجله سابقاً حاكم البنك المركزي في المكسيك، نوبرتو بيلو، كصاحب أطول ولاية حاكم مصرف مركزي في العالم، حيث شغل منصبه لمدة 24 عاماً من العام 1995 حتى العام 2019، فيما يسجل في قائمة أطول فترات لحكام المصارف المركزية، ميغال ماندوزا، حاكم بنك فنزويلا المركزي، الذي شغل منصبه لمدة 21 عاماً.
عمر المصرف المركزي اللبناني 60 عاماً، نصفه كان في عهدة سلامة! وقد تعاقب 4 أشخاص على هذا المنصب الحساس الذي استُحدث عام 1963 بعد إقرار قانون النقد والتسليف، وهم فيليب تقلا (1964-1965)، إلياس سركيس (1967-1976)، ميشال خوري (1977-1985) وإدمون نعيم (1985-1990).
لكن الحاكم الخامس، على خلاف أسلافه الأربعة، مكث في منصب الحاكم 30 عاماً، جُدد له خلالها 4 مرات، ليصبح صاحب أطول ولاية لحاكم بنك مركزي في العالم.
ولايات سلامة المتتالية في حاكمية مصرف لبنان، صورة متناقضة بين النجاح الهائل والأضواء العالمية، وبين النهاية الحرجة بأصعب تجلياتها. فمن العظمة ومئات الجوائز والأغلفة في كبريات المجلات المالية، يتعامل الرأي العام المحلي والدولي معه كأحد أركان الانهيار المالي!
إختير سلامة للمنصب إستناداً إلى خبرته المالية، التي أوصلته إلى موقع نائب الرئيس في شركة “ميريل لينش” العالمية، إلى جانب إعتبارات تتعلق برؤية رفيق الحريري الذي توسم فيه القدرة على تحقيق إستقرار إقتصادي بعد الحرب الأهلية (1975-1989)، وهو ما حققه فعلاً في ولايته الأولى، حيث إنخفض التضخم السنوي الذي وصل إلى ذروته بنسبة 100% تقريباً عام 1992 إلى 0.2% فقط عام 1999.
في عام 2004 (خلال مؤتمر باريس 2)، كان يشار إلى سلامة بالبنان بسبب إستثماره في الذهب، الذي كان إلياس سركيس قد بادر الى مراكمته عندما كان حاكماً للمصرف المركزي.
كما بنى سلامة مخزوناً كبيراً من الاحتياطي الرسمي بالعملات الأجنبية. وبحلول العام 2008، رفعت وكالة التصنيف الائتماني “موديز” توقعاتها للنظام المصرفي اللبناني إلى “إيجابي”.
وبعد عام واحد، إختارت مجلة “ذا بانكر” وهي مجلة عالمية متخصصة في الشؤون المالية الدولية رياض سلامة ليكون “أفضل حاكم مصرف مركزي في الشرق الأوسط للعام”.
خلال فترة ولايته، أظهر سلامة موهبة في السياسة، فقد أقام تحالفات وحافظ عليها مع كل الأطراف، بما في ذلك “حزب الله”، ما اعتبر أن نسج تلك العلاقات السياسية يندرج في إطار طموحاته ومساعيه لتبوؤ منصب رئاسة الجمهورية.
وفي هذا الاطار، كتب جيفري فيلتمان (سفير الولايات المتحدة الأسبق في لبنان) في برقية ديبلوماسية عام 2007 نشرها لاحقاً موقع “ويكيليكس”: “هناك شيء بعيد المنال وزلق بطبيعته بشأن سلامة”. بحلول ذلك الوقت، كان سلامة قد حظي بتأييد الولايات المتحدة وكان يزور واشنطن ودمشق لعقد اجتماعات استراتيجية حول الترشح المحتمل لرئاسة لبنان.
في برقية أخرى في وقت سابق من ذلك العام، روى فيلتمان أنه “خلال مأدبة عشاء لنادي الروتاري قال إن سلامة رد على سؤال حول أولويات سياسته بقوله: أعطني الرئاسة وسأخبرك”!.
بعد كل هذا العز الذي حققه رياض سلامة طيلة ثلاثين عاماً، ما لبث أن إنهار في ثلاث سنوات، كانت كفيلة بإطاحة (ما يعتبره) إنجازاته على صعيد النقد والاقتصاد والنظام المصرفي، مع بدء تنفيذ الهندسات المالية، التي أفادت المصارف ورجال الأعمال والطبقة السياسية (!) وصولاً إلى الإنهيار الكبير في العام 2019، الذي سيبقى أسير الخزائن الصامتة، إلى حين يقرر سلامة “قرع جرس” الحقيقة الكاملة، إذا ما قرر فتح “الصندوق الأسود”.
زياد سامي عيتاني- لبنان الكبير