جمهوريّة لبنان في قبضة “حزب الله”؟
مهمّة لودريان المستحيلة… جمهوريّة لبنان في قبضة “حزب الله”؟
لم تكن زيارة المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان للبنان والتي اختتمها بلقاء ثانٍ مع رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري، إلا محاولة لإبقاء الحضور الفرنسي قائماً وشعلته متقدة، وإن كانت هذه المرة باسم لقاء الدوحة للدول الخمس المهتمة بلبنان.
لكن لودريان كان يعرف مسبقاً أن جولته لن تؤدي إلى إحداث خرق في الاستعصاءات اللبنانية، ما دام لم يأت حاملاً مشروعاً متكاملاً أو أجندة واضحة بأوامر عربية ودولية ناتجة من صفقة للحل، يتلقفه الفرقاء اللبنانيون الغارقون في صراعات المحاصصة الطائفية والسياسية والعاجزون عن صوغ تسوية إنقاذية تسمح بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والسير في الإصلاحات.
وعلى أهمية المعطيات التي أظهرها اللقاء الخماسي الأخير في الدوحة، والنقاط التي أثارها بيانه الختامي، والتغيير في صيغة اجتماع باريس في 6 شباط (فبراير) الماضي التي استندت إليها باريس في مبادرتها اللبنانية السابقة ونسجت خيوط مقايضتها، وتكريس الدول في الدوحة 2023 مقاربة جديدة للواقع اللبناني الذي يختلف اليوم عن كل مراحل الأزمات التي مر بها البلد منذ تأسيسه، فإن حركة لودريان لم تستند إلى رافعة يمكنها تحريك المياه الراكدة لدى القوى اللبنانية، فتعاملت مع طروحاته الجديدة بعدم اكتراث، حتى مع تحذيره بأن عدم الانخراط في المشاورات المقترحة أو الحوار بشأن مواصفات الرئاسة في أيلول (سبتمبر) المقبل سيفتح الطريق إلى إقرار عقوبات على المعرقلين.
تشير الوقائع إلى أن عدم تحقيق لودريان أي معطى إيجابي يستند إلى غطاء عربي ودولي فاعل، سيترك تداعيات على لبنان لأشهر ينزلق فيها إلى مزيد من الانهيار وأكثر، وخصوصاً أن الاستعصاءات الداخلية تزداد حدة مع تمسك الممانعة بشروطها لانتخاب رئيس “لا يطعن ظهر المقاومة”، وهي في الأساس لم تتلقف التحول الفرنسي الذي كان يدعو إلى الحوار ودخول الدول الخمس على خطه. فأول المستائين من وجهة اللقاء الخماسي الجديدة كان “الثنائي الشيعي”، ولذلك أسباب لا ترتبط فقط بما يعتبره إسقاطاً للمبادرة الفرنسية وفكرة الحوار التي تشكل تقاطعاً معها، إنما ما يعتبره “حزب الله” استهدافات له، ومحاولة لتطويقه وإضعافه، وذلك على الرغم من أن الدول الخمس شددت على ضرورة الالتزام باتفاق الطائف وتطبيق القرارات الدولية، وهي عناوين أساسية لعودة الدولة وتحقيق الاستقرار وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة تواجه الانهيار في البلاد.
الدول الخمس غيّرت مقاربتها للملف اللبناني، إلا أن مسارها الجديد الذي عكسته زيارة لودريان كان يحتاج إلى أجندة واضحة ليتبلور بصيغة مشروع قادر على تطويع الاستعصاءات الداخلية، إذ لا يمكن اعتبار التدخل الخارجي اليوم، وإن كان يلوح بالعقوبات، نتيجة لصفقة إقليمية ودولية تحمل لواء التسوية ويمكنها أن تحسم في إنجاز الاستحقاقات الدستورية. وهذا كان واضحاً في بيان لودريان الختامي بشأن الزيارة، إذ شدّد لجميع محاوريه على ضرورة الخروج من المأزق السياسي والمؤسسي الحالي الذي يفرضه تمديد فترة الشغور الرئاسي الذي يشكل مخاطر كبيرة على لبنان ودولته واستقراره، قائلاً إنه اقترح على جميع الفاعلين المشاركين في عملية انتخاب رئيس الجمهورية دعوتهم، في أيلول (سبتمبر) المقبل، إلى اجتماع في لبنان يهدف للتوصل إلى توافق بشأن القضايا والمشاريع ذات الأولوية.
وبينما أكّد لودريان أن هذه المحاولة هي الوحيدة التي يقوم بها أصدقاء لبنان من أجل إيجاد مخرج للأزمة، فإن الحراك الدولي بشأن لبنان، لا يمكنه أن يحقق نتائج من دون أجندة واضحة بالتوازي مع تحركات لقوى إقليمية ودولية قادرة على التواصل مع جهات أخرى ومتعددة، وقد كانت لافتة زيارة وزير الدولة في وزارة الخارجية القطرية الدكتور محمد بن عبد العزيز الخليفي لإيران، في ما يُعتبر محاولة للتواصل حول الملف اللبناني مع طهران التي كانت أعلنت أنها أوكلت كل ما يتعلق بالاستحقاقات اللبنانية إلى “حزب الله”.
يتبين من خلال جولة لودريان أن الوجهة الجديدة للدول الخمس في اجتماع الدوحة ليست كافية لفتح أفق جديد في الاستحقاقات اللبنانية، وإن كان يمكن أن تتفاوض على أساسه مع المحور الإقليمي الآخر الذي تمثله إيران. وهذه الوجهة لا تزال وليدة وتحتاج إلى مراكمة خطوات للتوصل إلى أي تسوية أو صيغة تلاقٍ لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. وإذا كان لودريان قد تحدث هذه المرة باسم الدول الخمس لبنانياً، لكن من السابق لأوانه البناء على إمكان إحداث خرق خارجي في وقت قريب، ما لم يترافق الحراك مع ملفات إقليمية أخرى، خصوصاً ما هو مرتبط بالحدود اللبنانية – الإسرائيلية، وبملف التنقيب عن الغاز والنفط، وأيضاً بملف النازحين، والعلاقة مع سوريا في ضوء التصعيد الجديد بين الإيرانيين والأميركيين. كما أن المسار الذي يجري الحديث عنه ويقوم على التفاهم لانتخاب قائد الجيش يحتاج إلى رافعة دولية ووعاء لبناني أو صفقة مع الإيرانيين، وهو مسار يواجه تعقيدات داخلية، إذ إن “حزب الله” لا يتخلى عن مرشحه سليمان فرنجية، فيما يرفض رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل هذا الخيار، وهو ما يعني أن الوصول إلى تسوية إذا توافرت مقوماتها يحتاج إلى بضعة أشهر إضافية قد تكون حبلى بالمفاجآت.
لا أرضية جاهزة داخلياً في لبنان لبلورة تسوية بفعل الاستعصاءات والعجز عن التحاور أو إنتاج حلول، وإن كان الاهتمام الخارجي بلبنان فتح مساراً مختلفاً لكنه لا يعتبره من الأولويات. كما أن الأوضاع الخارجية الآن في ضوء التطورات على أكثر من محور وجبهة بين الإيرانيين والأميركيين لا تشير إلى إمكان بلورة صفقة مدفوعة بمتغيرات كبرى تنعكس على لبنان، باستثناء الحديث عن ضرورة المحافظة على الاستقرار والتدخل في حال الخطر. لذا قد تتكثف التحركات الخارجية للدول المهتمة بلبنان في الفترة المقبلة، قبل أن تتدحرج الأوضاع الداخلية إلى تطورات أمنية وانهيارات مالية واقتصادية لا يعود معها الحديث عن التسوية ممكناً، لا بل تتجه الأمور إلى انفراط الصيغة اللبنانية وتهدد الكيان. لكن لا شيء مضموناً من انهيار وشيك وإضافي للوضع المالي ولليرة قد يشكل ضغوطاً كبيرة على الجميع، وقد تكون له تداعيات خطيرة إذا تواصل حتى مطلع السنة الجديدة تاريخ انتهاء ولاية قائد الجيش جوزف عون.
هذا الواقع اللبناني العاجز، قد يؤدي إلى مزيد من التحلل في الدولة ومؤسساتها، فيما باتت حالة الفراغ تدفع جميع القوى إلى التمترس خلف بيئاتها الطائفية، فتتقدم طروحات الفيدرالية وحتى التقسيم والدويلات، رداً على ما يعتبره البعض هيمنة المشروع الإيراني على لبنان، ودولة “حزب الله”، وإن كانت فئات طائفية وسياسية لا تزال تؤكد التزامها باتفاق الطائف. لكن إذا استمر “حزب الله” برهن الاستحقاقات تحت عناوين حماية “المقاومة” والتمسك بمرشحه سليمان فرنجية، وتكريس سيطرته على الدولة، فإن الأمور قد تذهب إلى الفوضى وانهيار كل ما يميز صيغة لبنان وهويته.
ابراهيم حيدر- النهار العربي