مضافات عاشوراء: إنفاق بملايين الدولارات لا يواكب الأولويات المعيشية
تتكرر كلمة “مأجورين” على لسان سائق سيارة الأجرة، الذي دخل الضاحية الجنوبية من أوتوستراد هادي نصرالله قرب مقر الأمن العام الجديد. لا تكاد تخلو مسافة كل 100 متر من “حاجز محبة”، يقف عليه شبان في مقتبل العمر، يغدقون على السائق وركابه بالحلويات والعصائر وعبوات مياه، ميّزتها شركة التعبئة هذا العام بلفافة سوداء، تماهياً مع مناسبة عاشوراء. يقول السائق: “عندما أصل إلى الكفاءات، تكون السيارة قد امتلأت بمونة اليوم”.
منذ اليوم الأول في عاشوراء، يتكرر المشهد، وتتكرر الزحمة على سائر طرقات الضاحية وتفرعاتها. تنتشر المضافات بشكل قياسي، بما يتخطى أي سنة أخرى. يسأل راكب في سيارة الأجرة: “ما الداعي لهذا الإغداق؟”. يبستم السائق، فيما تلوي أخرى برأسها وتقول: “هم أنفسهم إذا طالبتهم بالتبرّع بعلبة دواء أو علبة حليب للأطفال، لن يستجيبوا بتأمينها”.
مواكبة للأزمة المعيشية
وبدأ انتشار المضافات في عاشوراء بهذا الشكل الكبير واليومي في المناطق التي تسكنها أغلبية شيعية في الضاحية والجنوب والبقاع، منذ العام 2020، إثر الأزمتين المالية والمعيشية اللتين ضربتا لبنان. حثّ قراء العزاء السكان على الإنفاق في هذه المناسبة، تماهياً مع طبيعة المناسبة، ولتخفيف أعباء الأزمة عن الفقراء والمحتاجين. لكنها في الواقع، انزلقت إلى إنفاق غير مدروس على أثر خروج الفعل عن مقاصده، مما دفع الشيخ شفيق جرادي للخروج بمقطع فيديو قبل أيام، يطالب الناس بأخذ ما يحتاجونه، وعدم رمي المأكولات. “حرام”، كما يقول في الفيديو.
تعويض الأحزاب والبلديات
ومع أن المضافات تحظى بتأييد القوى السياسية والمرجعيات الدينية، إلا أنها لا تمولها. يتكفل الميسورون بالجزء الأكبر من تمويلها، فيما تعتمد أخرى على متبرعين يضعون النقود في صندوق صغير، يحمله طفل يرافق شباناً يقدمون الحلوى على الطرقات. الأفراد المقتدرون هنا، يتحمّلون مسؤوليات الأحزاب والبلديات على حد سواء. في زمن الشحّ، يكثر المتبرعون وتتعدد وجهات الإنفاق، من تغطية تكاليف المازوت وأجرة القارئ والمضافات، بينما تتكفل الجهات الحزبية والإدارات المحلية بتنظيم المناسبة، وقطف ثمارها.
وجاهة
تتنوع المضافات من تقديم “الهريسة” وعلب الأرزّ مع اللحم، إلى الحلويات المعروفة في عاشوراء، مثل الكعك بالتمر و”الكايك” و”الراحة والبسكويت” و”كعك العباس”.. قبل أن تدخل الشاورما وسندويشات الـ”فاست فود” حديثاً. يضحك السائق حين يواجه زحمة أمام مضاف للسندويشات قرب حلويات السلطان، على أوتوستراد هادي نصرالله، متسائلاً: “هل جميع هؤلاء محتاجين؟”، ليأتي الجواب من السيدة: “فرصة لا تعوض”! وتبتسم.
والحال أن تطوير الموائد، ليس وليد الحاجة، أو بقصد التكافل والتضامن فحسب. ثمة جانب منه متصل بالوجاهة والمباهاة، وخصوصاً في مجالس العزاء التي تُقام في منازل الميسورين. لا تختلف صيغة تكريم المشاركين في العزاء، عن “تكريم” المشاركين في أي احتفال آخر، مثل حفلات الزفاف وسواها. “الضيف هو نفسه في الحزن والفرح”، تقول سيدة اعتادت على تقديم أفخر أنواع المأكولات في مجالس عزاء، درجت على إحيائها في إحدى قرى مرجعيون في الجنوب، وتستعين فيها بمطعم للمأكولات الجاهزة.
لكن الظاهرة في الوقت نفسه، تُحاط بانتقادات آخرين ممن اعتادوا على إحياء المناسبة بأقل قدر من الإنفاق. “لا نستطيع أن نعارض، لأن ما يُنفق ميزانه عند الإمام الحسين.. لكن ثمة مبالغة في التسابق على الإنفاق، وكأنها فرصة لإبراز القدرات المالية”.
إنفاق بغير مكانه
ومع أن ظاهرة المضافات العاشورائية لا يعارضها أحد، “لأنها معدة لتكريم ضيوف الإمام الحسين ومناصريه”، إلا أن حجم الامتعاض من “الإنفاق بغير مكانه”، يكبر. يتلقى منظمو المجالس العاشورائية في بلديات الجنوب شكاوى من انقطاع المياه، ويتلقون مطالب بأن تتحول أموال الإنفاق على الحلويات، لشراء المازوت وتشغيل محطات الضخ واستخراج المياه من الآبار الارتوازية، في ظل انقطاع الكهرباء. خصوصاً في فترة عاشوراء، وارتباط واقعة كربلاء بالمياه ورمزية عطش الإمام الحسين، والتمثل بأخيه العباس الذي يحمل في ملحمة كربلاء لقب “ساقي العطاشى”.
لكن الإجابات غالباً ما تدور حول “عجز” عن هذه “المبادلة”: “من يريد أن ينفق على مضيف، لا نستطيع أن نمنعه أو نطلب منه عكس ذلك. تلك حرية شخصية”، يقول مسؤول عن تنظيم المناسبة في إحدى قرى صور، لافتاً إلى أن “البعض استجاب في العام الماضي، لكن البعض الآخر رفض.. وهو ما لا نستطيع إجبارهم عليه لأن الناس مسلطون على أموالهم كما تقول القاعدة الفقهية”، وهو ما يشير إلى ضحالة عند العامّة في مقاربة الأولويات المعيشية، وسط شيوع منطق المفاخرة المستمر على مدى 10 ايام.
المدن