مهرجان قرطاج يحافظ على هويته
رغم مرور السنين لم يفقد مهرجان قرطاج بريقه. ما زال المهرجان قبلةً للجمهور التونسي في ليالي الصيف ومكاناً يفتخر الفنانون التونسيون والأجانب بالصعود على خشبته.
غنّى في مهرجان قرطاج منذ إنشائه سنة 1964 إضافة الى كبار المطربين التونسيين، قامات فنية عربية عديدة، من أمثال فيروز ونجاة الصغيرة ووردة الجزائرية ومارسيل خليفة.
واحتضن مسرحه الروماني الذي يعود بناؤه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، العديد من النجوم العالميين منهم لويس أرمسترونغ وراي تشارلز وجو كوكر وغيرهم.
ما فتئ المهرجان يسعى للحفاظ على هويته وهوية جمهوره، رغم التحوّلات التي شهدتها البلاد والتغيّرات التي طرأت على الساحة الفنية في الداخل والخارج.
تطرأ أحياناً بعض الأحداث العرضية لتعكر صفو المهرجان وتطرح التساؤلات عمّا إذا كان قادراً على الصمود أمام مختلف المستجدات. لكن هذه الأحداث تؤكّد في نهاية المطاف مكانة المهرجان في أعين مرتاديه ومحبّيه، وتساهم في ترسيخ هويته.
من هذه الأحداث، ما أثاره الكوميدي الفرنسي عزالدين بنجلالي، المعروف باسم “آزاد”، من استهجان شديد، إثر تفوهه بعبارات خادشة للحياء خلال عرض أقامه على مسرح المهرجان منذ أيام.
بلغت ردود الفعل حدّ وصف رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد لتصرّف الفنان الزائر بـ”الجريمة”، في حق المهرجان والمجتمع.
مسؤولو المهرجان اعتذروا من الجمهور. كما اعتذر الفنان الفرنسي نفسه لما قد يكون تسبّب به من صدمة للمشاهدين. ولكنه دافع عن محتوى العرض كتعبير “فني حرّ” بحسب قوله.
صحيح أنّ الفنان الفرنسي مارس نظرياً حرّيته كما تعوّد عليها في بلاده، ولكنه لم يأخذ في الاعتبار الحدود الثقافية لتلك الحرّية. ولم يعفه اعترافه من المسؤولية بجهله بـ”الثقافة التونسية”، بمعناها الواسع، والتي تشمل تقاليد الناس وقيمهم ومدى قدرتهم على تحمّل ما لا يتفق وأذواقهم ومعاييرهم الأخلاقية والسياقات التي تفرض ما يُقال وما لا يُقال.
بعض النقاد أشاروا إلى أنّ غالبية الجمهور الحاضر لم تغادر المسرح أثناء العرض. هذا صحيح. ولكن هذا لا يعني أنّ هذه الأغلبية كانت موافقة على محتواه أو مرتاحة له، وذلك لأسباب عدة لم يأخذها بنجلالي في الاعتبار.
أولها، إنّ مسرح قرطاج كان منذ إنشائه مسرحاً احتفالياً وجماهيرياً ترتاده الأُسر من مختلف أعمار أفرادها. لم يكن المهرجان أبداً منبراً للفن التجريبي مثل المنابر التي تحتضنها الفضاءات النخبوية والمهرجانات الصغيرة المنتشرة في البلاد.
وفعاليات المهرجان لم تكن أبداً مغلقة. فهي كثيراً ما تُبث على الهواء، بل ويُعاد بثها مراراً وتكراراً على شاشات التلفزيون التونسي.
جمهور مهرجان قرطاج واسع وقد زاد اتساعاً بعد أن دخلت المنصّات الإلكترونية على الخط. ومن الواضح مثلاً أنّ موجات الاستنكار على عرض بنجلالي زادت حدّة عندما تسرّبت مقاطع من الحفل إلى شبكات التواصل الاجتماعي.
الأكيد أنّ مسرح قرطاج ليس له جمهور “نتفليكس” نفسه أو القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية التي يشاهدها التونسيون بين جدران بيوتهم حيث هم أحرارٌ في ما يشاهدون.
وهو ليس جمهور المهرجانات الأخرى نفسه مثل المهرجان السينمائي الدولي بقرطاج، حيث تُعرض الأفلام بما فيها الإنتاجات التجريبية والطليعية من دون تابوات أو حرج.
خطأ بنجلالي الأساسي أنّه، رغم كونه من أصول مغاربية، لم يأخذ في الاعتبار الفروق الثقافية التي تفصل بين جمهوره في فرنسا والجمهور الذي حضر حفله في تونس.
ما زالت هذه الفروق قائمة رغم الروابط الوثيقة التي تجمع الجمهورين عبر وسائل الإعلام ومن خلال وجود مئات الآلاف من مهاجري شمال إفريقيا في فرنسا وتوافد الفرنسيين إلى بلاد المغرب العربي لسنوات طويلة. هذه الروابط تعطي أحياناً انطباعاً مضلّلاً بأنّ الاختلافات بين الثقافتين قد تقلّصت إن لم تكن اضمحلت تماماً.
الجهل بهذه الفروق الثقافية يبقى من معوقات التواصل والإبداع الفني عبر الحدود. ومثل هذا الجهل قد تكون له تداعيات على استقرار المجتمعات المتعدّدة الثقافات والأديان والأعراق.
وسوء معالجة مثل هذه الفروق يقف إلى حدّ كبير وراء التوترات التي تطفو على السطح من حين إلى آخر في فرنسا ذاتها، ومن بينها ما حدث بعد مقتل الشاب نائل.
ما زال هذا الشرخ الثقافي بجذوره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يشوّش على العلاقة بين السلطات الفرنسية والأقليات العربية والإفريقية والمسلمة في فرنسا، ويعيق اندماج هذه الأقليات.
من بين الفروق الثقافية فَهم الناس للحرّية وتصنيفهم للممنوعات ورؤيتهم لما هو مستهجن أو مقبول، بحسب السياق والمقام.
ورفض المجتمع التونسي للألفاظ الصادمة في مسرح قرطاج لا يعني أنّه أصبح أقل تمسكاً بحرّيته وحرّية غيره في التعبير. ما زال التونسيون بلا أدنى ريب متعلّقين كثيراً بهذه الحرّية، بعد أن خرجوا للمطالبة بها في الشوارع ونالوا هامشاً كبيراً منها بتضحياتهم.
ولكنهم بقوا يستبطنون قيماً مجتمعية مشتركة لا يرون أنّ خرقها يدخل ضمن حرّية التعبير. وهم لم يتخلّوا أبداً عن محاولة التوفيق بين دواعي الانفتاح على الآخر والتمسّك بالمفاهيم التقليدية التي تجمعهم.
لذا، كان الاحتجاج على عرض بنجلالي تذكيراً هادئاً بالضوابط الثقافية للحرّية وبنوعية الإبداع الفني الذي يتماشى مع هوية مسرح قرطاج وتطلّعات جمهوره.
كان أيضاً لفت انتباهٍ لكل فنان ناشئ بأنّ وراء الحدود ثقافات مختلفة لا بدّ من أن يُقرأ لها ألف حساب، ويضع على عاتق مسؤولي مهرجان قرطاج عبئاً تاريخياً يحتاجون إلى الحفاظ عليه في كل المنعطفات.
اسامة رمضاني- النهار العربي