رغم الفورة السياحية…في لبنان طبقتان: واحدة فاحشة الثراء وثانية معدومة ومسحوقة
ما يعيشه لبنان سياحياً في صيف 2023 قد لا يكون مطابقاً لحقيقة الوضع اللبناني العام. صحيح أن المشهد الذي يتابعه العالم عن لبنان حالياً محيّر، إذ يعج مطار رفيق الحريري الدولي بالمغتربين والسياح الوافدين، وتنشط الحركة السياحية في بعض المدن والبلدات والقرى كالبترون وجبيل وجونية وبيروت وعاليه وبعلبك وبيت الدين، حيث يُحتفل بالمهرجانات وتمتلئ المطاعم والفنادق، وهذا كلّه دفع اللبنانيين الى التمسّك بالأمل وحبّ الحياة على الرغم من الظروف الصعبة المعروفة.
لا شك في أن العمود الفقري لهذه الحركة السياحية هم المغتربون الذين يأتون إلى لبنان لقضاء فترة الصيف مع العائلة والأهل، بالاضافة إلى أن الناس يدَّخرون كل السنة ليعوِّضوا لأطفالهم وعائلاتهم في الصيف. من هنا تشهد الأسواق التجارية والمواقع السياحية إقبالاً في هذه الفترة، ونتمنى أن تستمر هذه المرة فترة أطول، وخصوصاً أنه يقدّر دخول مليوني زائر إلى لبنان خلال هذا الصيف، وتحقيق أرباح تتجاوز المليار ونصف المليار دولار ما يعتبر أمراً مبهراً، لكن دائرة المستفيدين منه قد لا تخرج عن المستثمرين والعاملين في القطاع السياحي، إضافة إلى افادة لسائر القطاعات الزراعية والصناعية والتجارية في سياق تأمين الحاجات والسلع المطلوبة للخدمات السياحية.
مع ذلك، هذا المشهد لا يتطابق مع الواقع اللبناني العام، في ظل تدهور الأوضاع المعيشية والمشكلات الاقتصادية والمالية والأزمة السياسية البنيوية التي يتخبّط بها لبنان. وهذا ما أكدته السفيرة الفرنسية آن غريو في كلمة وداعية صريحة بعد انتهاء خدمتها قائلة: “لبنان ليس على ما يرام. يطيب للبعض أن يعتقدوا اليوم أنّه تمّ تجاوز الأزمة، غير أنّ الاستقرار الحالي إستقرار خادع. إذا ما وضعنا جانباً المساعدات الكبيرة التي تقدمّها الجالية اللبنانية والمجتمع الدولي، ما هو السبب الكامن وراء هذا الاستقرار الظاهري؟ السبب هو الاقتصاد غير الرسمي الذي يتمدد ويتعمّم. والأمر المقلق هو أنّ هذا الاقتصاد يتغذى من الترسيخ المتزايد لعمليّات التبييض وللجريمة المنظّمة التي تنتشر في أنحاء المشرق كافة، بدفع من سوريا التي أصبحت دولة مخدرّات. ينبغي قول ذلك علانية. أمّا نموذجكم المالي والاقتصادي فقد بات مُنهَكاً”.
هذا الكلام الجريء والمتقدّم، يعطي صورة دقيقة عن ظاهرة الاقبال السياحي في موسم الصيف الذي لا يجوز أن يخدع أحداً من اللبنانيين، فالحقيقة أن 80 في المئة منهم باتوا تحت خط الفقر، ومن يملأ المطاعم والمواقع السياحية هم 20 في المئة من الشعب اللبناني زائد المغتربين والسياح، بل مؤشرات البنك الدولي الأخيرة حذّرت من اقتراب مرحلة المجاعة التي يعيشها بالفعل نحو 400 ألف لبناني! وإن دلَّ ذلك على شيء، فعلى أن في لبنان اليوم طبقتين اجتماعيتين، واحدة فاحشة الثراء ولا تشعر إطلاقاً بوطأة الأزمة وتعيش حياتها كالمعتاد، وثانية معدومة ومسحوقة بالكامل وبالكاد تعيش كل يوم بيومه.
أول الأزمات الطارئة ستنتج عن الارباك الذي سيخلّفه انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وانعكاس ذلك على الوضع المالي، وما سيفعله نائبه الأول وسيم منصوري الذي من المتوقع أن يتسلم مهامه بالإنابة، مع المجلس المركزي للبنك المركزي، وكيف سيتأثر سوق الصرف وسعر الدولار، ومصير منصة “صيرفة” أو بعض التعاميم، وغير ذلك. وهناك مخاوف من أن أي تقنين من مصرف لبنان في عملية ضخ الدولار في السوق، سينعكس بصورة فورية على سعر الدولار في السوق الموازية، وسيدفعه مجدداً الى الاتجاه صعوداً! فالبنك المركزي يمدّ السوق يومياً بنحو 150 مليون دولار عبر منصة “صيرفة”، ويقترب المبلغ أحياناً من رقم 200 مليون دولار. بالتالي، منصة “صيرفة” تلعب دوراً أساسياً في الحفاظ على استقرار سعر الدولار منذ نحو 4 أشهر. كل ذلك، يدلّ على تخبّط وضياع وعدم وجود أي تصوّر ولو مرحلي لادارة الوضع بانتظار الحلول السياسية الكبرى.
سياسياً، تعطيل الثنائي الشيعي للاستحقاق الرئاسي، يخيّم على كل مؤسسات الدولة ومرافقها بحيث ستعاني من الشغور والفراغ تدريجياً، وهذا الاستحقاق لا يزال في دائرة الاستعصاء، ولا حلحلة في وقت قريب على الرغم من التحركات الحاصلة اقليمياً ودولياً، وطالما فريق الممانعة متمسك بمرشح التحدي سليمان فرنجية ومحاولاته مستمرة لفرضه بالقوة، اضافة الى مناوراته الحوارية البهلوانية. بالتالي وإزاء هذا الواقع، الفراغ الرئاسي سيطول، ولا حلول قريبة في الأفق للأسف. وفي حال عدم انتظام الوضع السياسي بدءاً من انتخاب رئيس جديد للجمهورية بمواصفات إنقاذية إصلاحية، فالمخاوف من مرحلة انهيار جديدة لليرة وارتفاع سعر الدولار جدية جداً. وعلى اللبنانيين في هذه الحالة الاستعداد منذ الآن لدولار الخريف الأسود، بعد انقضاء موسم الصيف الواعد واستهلاك دولارات المغتربين والسياح.
والأنظار منذ أسابيع تتجه جنوباً، إثر الأحداث الأمنية التي عكّرت صفو الموسم السياحي، نتيجة المناوشات المتبادلة بين اسرائيل و”حزب الله” ما أدخل لبنان في حالة من اللااستقرار.
من جهة أخرى، من المتوقع في منتصف أيلول ومع بدء الموسم الدراسي أن يجد الأهالي الذين يعلّمون أبناءهم في مدراس خاصة، أنفسهم أمام موسم صعب والصرخة ستتصاعد، ولا أحد يمكنه توقع الترددات لقرار رفع الأقساط في المدارس الخاصة، فالدولة والسلطات المعنية غائبة عن هذه القضية. فهل يعقل أن يصبح قسط الطفل في الصفوف القريبة من الحضانة 1500 دولار تقريباً ويصل إلى 2000 دولار في بعض المدارس، فيما السلطات متعامية عن المسألة؟ من المتوقع أن تنفجر هذه القضية. الأهالي لن يسكتوا، أمام الحجة غير المقنعة لرفع رواتب المعلمين المستحقين، فمن واجب المدارس مراعاة الوضع القائم.
وأخيراً، ستبقى قضية اللاجئين السوريين عبئاً على الشعب اللبناني، ولا يبدو أن هناك حلولاً ناجعة تؤول إلى عودتهم إلى سوريا، وبالتالي أوضاع الشعبين اللبناني والسوري ستدفع إلى مزيد من الهجرة غير الشرعية المنطلقة من لبنان باتجاه أوروبا، على الرغم من المآسي التي حصلت في أوقات سابقة والضحايا الذين ماتوا غرقاً في محاولات عدة فاشلة، لكون عمليات التهريب تتم عبر قوارب بدائية متهالكة تُحمَّل أكثر من طاقتها بكثير.
نعتذر من هذه الصورة القاتمة للمستقبل القريب، إلا أنه لا يمكن التفاؤل بنهوض الاقتصاد والخروج من حالة الانهيار إلا بحل سياسي جذري يؤدي إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد وتكليف رئيس حكومة يشكّل حكومة مستقلة عن القوى السياسية، يكون هدفها إنقاذ لبنان سياسياً واقتصادياً بسرعة قياسية.
جورج حايك- لبنان الكبير