فوضى بلا حدود… وربما إنفجار كبير!
قياساً على ما يحصل من فوضى في مسألة ملء الفراغ الذي سينشأ عن انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة نهاية تموز الحالي، لا يمكن التكهن بما يمكن أن يحصل مع استحقاق انتهاء ولاية قائد الجيش العماد جوزاف عون في 10 كانون الثاني المقبل. هي مظاهر من مسلسل تحلّل المؤسسات وانهيار الدولة التي تتردّد أخبار التحذير منها من بيان اللجنة الخماسية في الرياض إلى مجلس الأمن الذي يبحث في مسألة تنفيذ القرارات 1559 و1680 و1701، والتمديد للقوات الدولية.
بدأ مسلسل الفراغ مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأول الماضي. على رغم أنّ موعد انتهاء الولاية كان معروفاً، وأنّ طريق ملء الفراغ كان مرسوماً بموجب الدستور، إلا أنّ سلطة الوصاية السياسية ذهبت إلى الفراغ والتعطيل المتعمّد لانتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل شهرين من انتهاء الولاية. بدل عقد جلسات متتالية جدّية ومسؤولة لانتخاب الرئيس، تحوّل المجلس النيابي عمداً إلى عقد جلسات فولكلورية من خلال تطيير النصاب. انتخابات 15 أيار 2022 أفقدت «حزب الله» ومؤيديه القدرة على التحكّم بنتائج التصويت وانتخاب مرشحه منذ البداية سليمان فرنجية، يضاف إلى ذلك الخلاف الذي نشأ بين «الحزب» و»التيار الوطني الحر» حول موضوع الرئاسة ورفض «التيار» انتخاب فرنجية. لذلك اختار «الحزب» التعطيل.
كان يمكن أن يطال التعطيل مجلس النواب. قبل 15 أيار سادت أجواء توحي وكأنّ محور «حزب الله» لا يريد الإنتخابات. ولكن عدم القدرة على التمديد للمجلس النيابي بالإضافة إلى الضغوط الدولية جعل الإنتخابات بحكم الأمر الواقع الذي لا مفرّ منه. كان يجب أن تؤدّي هذه الإنتخابات إلى استعادة المسار الدستوري والديمقراطي من خلال انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهل المحددة يُجري بعدها استشارات نيابية لتسمية رئيس حكومة جديد يشكّل حكومة تحكم مع رئيس الجمهورية وتبدأ مسار الصعود من الهاوية. ولكن كان واضحاً أنّ قرار الحزب وتيار الممانعة كان البقاء في الإنهيار من خلال تفريغ المؤسسات.
حكم الأمر الواقع
بحكم الأمر الواقع كانت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أصبحت مستقيلة بعد الإنتخابات. على رغم إعادة تكليفه تشكيل حكومة جديدة، إلا أنّه بخلافه مع الرئيس ميشال عون تعطّلت عملية التأليف. قبل انتهاء ولاية عون بدأ الحديث عمّا يمكن أن تقوم به حكومة مستقيلة وعمّا إذا كان يمكنها أن تحلّ محلّ رئيس الجمهورية. أكثر من ذلك بدأ البحث عن مخارج وهرطقات دستورية تُنظِّر لبقاء الرئيس عون في قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته، من بينها أنه يمكن أن يستمر في موقعه تجنباً للفراغ. ولكن كل هذه النظريات سقطت وغادر عون القصر في 30 تشرين الأول لينتقل إلى مقرّه الجديد في الرابية، بعدما شارك نواب «التيار الوطني الحر» وحلفاؤهم في تطيير النصاب على رغم عدم اتفاقهم على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية.
إنّها المرة الثالثة بعد الطائف التي يحصل فيها الفراغ الرئاسي. حصل بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في 23 تشرين الثاني 2007، ثم بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 24 أيار 2014، وحالياً بعد انتهاء ولاية الرئيس عون. وفي المرات الثلاث كان «حزب الله» ومحور الممانعة هما السبب. بعد انتهاء ولاية لحود كانت حكومة الرئيس فؤاد السنيورة قائمة وبقيت كذلك بعد استقالة وزراء الثنائي الشيعي ولحود منها. بعد انتهاء ولاية سليمان تولّت حكومة الرئيس تمام سلام المسؤولية، وهي تشكّلت لهذه الغاية، وكان معروفاً أن لا انتخابات رئاسية. إشكالية ما بعد انتهاء ولاية عون كانت بحكم أن حكومة ميقاتي مستقيلة. وهذا ما أدّى إلى التشكيك بدستورية جلساتها وبالقرارات التي تتخذها بحكم الدستور أم بحكم الضرورة.
حكم الضرورة انتقل إلى مجلس النواب. المجلس الذي يجب أن يعقد جلسات متتالية لانتخاب رئيس للجمهورية فقد هذا الدور بحثاً عن جلسات تشريع بحسب الطلب وبحسب القوانين المطروحة. أحياناً يكتمل النصاب وأحياناً لا يكتمل في مشاهد سياسية تعبّر عن الفوضى المعمّمة تباعاً على كل أجهزة السلطة ومؤسسات الدولة.
فوضى نواب الحاكم
ما يحصل في موضوع حاكمية مصرف لبنان خير دليل على هذا التخبّط في إدارة الدولة التي تغرق. كما حصل في رئاسة الجمهورية لا تزال عمليات التنظير مستمرة للبحث عن مخارج يمكن أن تبقي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مركزه على خلفية أنّه الأقدر على أن يستمرّ في إدارة الفوضى، أو الإنهيار، حتى لا يكون الإرتطام مدمّراً وكبيراً. مع أنّ هذه النظريات ساقطة بحكم التحقيقات الدولية والمحلية مع سلامة، وبحكم عدم قدرة الحكومة الموجودة على التمديد له أو تعيين آخر محله، ومع أنّ المَخرج موجود من خلال القانون بحيث يحلّ نائب الحاكم الأول وسيم منصوري محلّه إلا أنّ التخبّط سيّد الموقف.
فجأة عاد إلى الحياة نواب الحاكم الأربعة. إذا كان منصوري هو من يتولّى المسؤولية فلماذا يتصرف هؤلاء مع ما تبقى من سلطة سياسية وكأننا بتنا أمام قيادة جماعية للمصرف المركزي وللأزمة المالية؟ هل يحلّ نائب الحاكم الأول محلّ الحاكم ويتمتع بكامل صلاحياته؟ هل ينتقل إلى مكتب الحاكم أم يبقى في مكتبه؟ وهل تمّ تغيير ونفض أثاث مكتبه؟ كيف تكون علاقته مع النواب الآخرين؟ هل يمكن أن يتفرّد بالقرار أم يعتمد التشاور مع النواب الثلاثة من خلال عقد اجتماعات للمجلس المركزي لتغطية القرارات التي يمكن اتخاذها؟ كيف يمكن أن يضع مع نوابه خطة للخروج من الأزمة بينما توليه المسؤولية يبقى موقتاً وظرفياً بعكس ما يكون عليه الوضع مع الحاكم المعيّن لستة أعوام والمحصّن بحكم حصانة الموقع؟
التجربة المتواضعة للنائب الأول للحاكم ورفاقه النواب تنمّ عن فوضى في مواجهة الأزمة وعن تخبّط في القرار بحيث لم يقدّموا أي خطة إنقاذية بل مجرّد أفكار وطروحات لا ترتقي إلى مستوى الخطة وهم لم يجاهروا بأن لديهم مثل هذه الخطة. على العكس تهيبوا المسؤولية وظهروا وكأنّهم عاجزون عن ملء الفراغ، وكأنّ سلامة كان يدير اللعبة كلاعب منفرد لا يمكن الحلول محله، وهم بذلك أقرب إلى إعلان العجز عبر التهديد بالإستقالة مع المطالبة بدعم سياسي يغطّي الفشل وكأنّهم يريدون إشراك الحكومة العاجزة أصلا ومجلس النواب في تحمّل مسؤولية الإنهيار الكبير الذي سيتفرّج عليه سلامة بعد 31 تموز.
خطر الفراغ في اليرزة
ما يحصل على مستوى مواجهة الفراغ في حاكمية مصرف لبنان لا يقارن بما يمكن أن يحصل مع الفراغ المتوقّع في المؤسسة العسكرية بعد 10 كانون الثاني. إذا كان هناك نائب أول للحاكم يتولّى المسؤولية فإنّ انتقال القيادة غير متوفر في الجيش بحكم عدم وجود رئيس للأركان وعدم قدرة الحكومة على تعيين قائد للجيش قبل انتهاء ولاية عون، أو رئيس للأركان. هذه التعيينات تتطلّب حضوراً سياسياً كاملاً من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة، وتدابير مرافقة داخل الجيش تنتج عن رتبة الضابط الذي يتم اختياره لتولّي القيادة. فكيف إذا كانت كل هذه الآلية مفقودة؟ ومن هنا يمكن العودة إلى التحذير الذي أطلقه العماد جوزاف عون وحدّد فيه أن لا أحد يتولّى القيادة إلا رئيس الأركان.
إذا كانت تداعيات الأزمة المالية تُكمِّل حال الإنهيار الحاصل فإنّ تداعيات الفراغ على مستوى قيادة الجيش تبدو أخطر وأعمق. فالجيش في ظل القائد جوزاف عون لا يزال مؤسسة متماسكة على رغم الطعنات التي يتلقّاها وهو لا يزال يمسك بالوضع الأمني على الحدود وفي الداخل. ولذلك إنّ أي إخلال بالأمن سيكون كارثياً على مستوى لبنان كله بحيث قد لا تكون هناك قدرة على احتوائه. فكل النظريات حول تكليف ضابط من أعلى الرتب بمهمام القيادة لم يظهر أنها سالكة.
ولذلك ينقسم المشهد السياسي الأمني بين نظريتين: أن تنتهي ولاية العماد جوزاف عون ويذهب إلى التقاعد من دون بديل عنه ويبدأ الإنحلال الأمني، أو أن يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية تحت ضغط تجنب الوقوع في الفوضى الكبرى التي يمكن أن تحصل، حيث أنّ الدخول في هذه الفوضى لن يكون خاضعاً للضبط والإحتواء في ظلّ عدم وجود سلطة عسكرية أو سياسية.
ولكن هل من مصلحة الذين يعطّلون جلسات انتخاب الرئيس أن يتخلوا عن التعطيل؟ أم أنّهم سيستمرّون في تدمير آخر معالم الدولة والجمهورية بحثاً عن رئيس واحد لا غير يحمي ظهر «الحزب» و»عندو ركاب» كما قال السيد حسن نصرالله؟ وبالتالي هل الإنهيار يحمي «الحزب»؟ وهل الحرب المفتوحة ضد ترشيح العماد جوزاف عون، ومنع انتخاب أي مرشح آخر غير سليمان فرنجية، هي الحل بالنسبة إلى المحور الممانع؟
خمسة أشهر تفصل بين الفراغ في حاكمية مصرف لبنان و»حاكمية» قيادة الجيش. منذ بيان نيويورك السعودي الأميركي الفرنسي في 22 أيلول 2022 قبل انتهاء ولاية الرئيس عون، إلى بيان الإتحاد الأوروبي حول لبنان، وبيان اللجنة الخماسية في الرياض في 17 تموز الحالي، إلى مناقشة تنفيذ القرار 1701 في مجلس الأمن في 20 تموز الحالي، ثمة نقاط مشتركة تركّز على اهتمام المجتمع الدولي بإنقاذ لبنان وعلى انتخاب رئيس للجمهورية وخطة إنقاذ وعدم الإفلات من العقاب في قضية تفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وعلى تنفيذ القرارات الدولية 1559 و1680 و1701 التي تهدف إلى نزع سلاح «حزب الله» واستعاد سيادة الدولة اللبنانية وضبط الحدود، كلّها محطات لا يمكن أن تنتج حلّا إلّا إذا اقترنت بالعودة إلى مجلس النواب وانتخاب رئيس جديد للجمهورية والإنتهاء من مسرحيات التعطيل باعتبار أن الفوضى أخطر من الفراغ قبل الوصول إلى الفوضى الكبرى وربما الإنفجار الكبير.
نجم الهاشم- نداء الوطن