المشهد غير مألوف: مطلوب “حاكم” لمكتب رياض سلامة!
قصّرت جميع السيناريوهات المتداولة عن الإحاطة بـ “النهاية” المتوقّعة لوجود رياض سلامة على رأس حاكمية مصرف لبنان منذ 30 عاماً. الأرجح أنّ المشهد غير مألوف في كبرى ديمقراطيات العالم وأكثرها ديكتاتورية وقمعاً.
ما تزال المفاجآت متوقّعة، ومن ضمنها السعي الحثيث الذي لم يتوقّف إلى تعيين حاكم بديل يُكمل أقلّه “الفترة الصعبة والخطرة” قبل حلول زمان التسوية وانتخاب رئيس جمهورية الذي يكون من نتاجه تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، وليس انتظار الأخير جلوس “فخامته” على كرسيّ الرئاسة الأولى لأداء قسم اليمين أمامه.
لم تفلح المساعي الكاتمة للصوت في إقناع جهاد أزعور بأن لا يخرج خالي الوفاض من مشروع الرئاسة والحاكمية، فيكون التعويض بتعيينه حاكماً لمصرف لبنان في ظلّ شبه تسليم رسمي بأنّ الأزمة طويلة وبأنّ الفريق الذي انتخبه في جلسة 14 حزيران استخدمه للمناورة لا أكثر.
في هذا السياق، علمِ “أساس” أنّ موفدين التقوا أزعور خارج لبنان لإقناعه بتسلّم كرة نار الحاكمية، لكنّه رفض حاصراً معركته بالوصول إلى قصر بعبدا رئيساً توافقياً لا صداميّاً. كان لافتاً في هذا السياق الطلب الصريح من جانب كتلتَيْ الرئيس نبيه برّي والحزب الاشتراكي بتعيين حاكم على مسافة أيام قليلة من نهاية ولاية سلامة، وهو ما يعكس التلاطم المخيف في الخيارات على أبواب حقبة ما بعد رياض سلامة، ويكرّس أيضاً التناقض الإضافي في المسارات بين معسكر مُسلم يفضّل التعيين وآخر مسيحي رافض تماماً له، مع تمايز للحزب بإشهار الفيتو ضدّ التعيين.
أنعش هذا الواقع مجدّداً خيار “تمديد آخر لحظة” لسلامة، وهو القرار الذي سيعلن سلامة، وفق معلومات “أساس”، رفضه الصريح له في المؤتمر الصحافي الذي سيعقده.
دُرِس مشروع التمديد بعناية في الأروقة الضيّقة ولم يجد ممانعة خارجية له بشرط ربطه بالتوافق على انتخاب رئيس للجمهورية بحيث يبقى سلامة في موقعه إلى حين تمكّن الحكومة الجديدة من إجراء التعيينات بالأصالة، لكنّه سقط منذ أسابيع مع تيقّن الداخل والخارج أنّ الأزمة “مطولة” أقلّه حتى نهاية العام. فعليّاً تقود كلّ الدروب إلى إعلان واحد: مطلوب “حاكم” لمصرف لبنان.
تتسارع التطوّرات بطريقة دراماتيكية موحيةً بأنّ كلّ الاحتمالات ما تزال مفتوحة، لكنّ ما هو ثابت حتى الآن ويتحاشى نواب الحاكم الأربعة الإقرار به هو أنّ الاستقالة “ورقة ضغط” شَطَح هؤلاء في استخدامها مثيرين النقزة حتى لدى فريقهم السياسي، لكنّها ستقف عند عتبة 31 تموز ولن تتحوّل إلى حكم تنفيذي، وتفيد معلومات “أساس” بأنّ نواب الحاكم لن يستقيلوا مهما كانت نتائج مفاوضاتهم مع السلطة السياسية.
بالتحديد، وباختصار: وسيم منصوري نائب الحاكم الأوّل لن يستقيل. جلّ ما يفعله هو ونواب الحاكم الثلاثة الآخرون “رفع المسؤولية” عن كلّ خضّة أو “نكبة” أو تراجع دراماتيكي في الوضع النقدي والمالي على قاعدة “اللهمّ إنّنا بلّغنا”. عموماً، هم قالوا في خطة “استيعاب الضربة” التي قدّموها ما كانوا يجاهرون به منذ أشهر في جلساتهم المغلقة وأمام مسؤولين أجانب.
هكذا يودّع سلامة “حاكميّته” باستثناءات لم تشهدها دولة أخرى في العالم: المطلوب للعدالة بموجب نشرتين حمراوين للإنتربول، والملاحق داخلياً وأوروبياً والممنوع من السفر، والذي طلب القضاء الألماني مداهمة مكتبه “ومصرفه” للاطّلاع على حساباته، يستعدّ لعقد مؤتمر صحافي أمام وسائل إعلام محلية وعربية ودولية، وبحماية أمنيّة مشدّدة، يقول عارفوه إنّه سينزع من خلاله آخر ورقة تين عن هيكل السلطة السياسية المتهالك، مدافعاً عن سياساته الماليّة المغطّاة بالكامل من كلّ الحكومات المتعاقبة بما فيها “تعاميم الأزمة”، وسيسلّم دفّة القيادة لنائبه الأوّل وفق موجبات قانون النقد والتسليف. الأهمّ أنّه لن يتمكّن سلامة بعد خروجه النهائي من مكتبه في مصرف لبنان من مغادرة الأراضي اللبنانية حتى إشعار آخر.
يتزامن موعد 31 تموز مع تبلّغ الدولة اللبنانية رسمياً، عبر رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل القاضية هيلانة إسكندر، قرار محكمة الاستئناف الفرنسية بالحجز على ممتلكات رياض سلامة وشقيقه رجا ومساعدته التنفيذية ماريان الحويك وصديقته الأوكرانية آنا كازاكوفا، التي تقارب قيمتها، وفق مصدر مطّلع، 100 مليون يورو، والمؤلّفة من عقارات وشقق سكنية فخمة ومؤسّسات تجارية.
القرار الذي اطّلع “أساس” على نسخة منه والمؤلّف من 228 صفحة واكبه تطوّر داخلي تجلّى في قرار رئيس دائرة التنفيذ في بيروت القاضي غابي شاهين تنفيذ الحجز الاحتياطي على ممتلكات رجا سلامة وماريان الحويك في لبنان، استجابةً للطلب الذي تقدّمت به هيئة القضايا في وزارة العدل.
الخاتمة الأصعب تبرّؤ نواب الحاكم منه ومن “اجتهاداته” غير القانونية، والدليل طلبهم تشريع وتغطية ما كان يقوم به رياض سلامة منذ جلوسهم إلى طاولة المجلس المركزي ورفضهم الاستمرار بالإنفاق من الاحتياطي الإلزامي من دون قانون يُقَرّ في مجلس النواب ودعم رواتب القطاع العامّ “ربّانياً”، مع وضع خطة مالية لالتقاط الأنفاس مستحيلة التنفيذ، بمدى زمني يراوح بين آب ونهاية تشرين الثاني.
الخطة بالأساس من صميم واجب الحكومة التي لم تنجزها، وتتضمّن شبه إملاءات على مجلس النواب وحكومة تصريف الأعمال بما يجب ولا يجب أن يقوما به، وجدول أعمال بالمشاريع الإصلاحية الضرورية كالكابيتال كونترول، وإقرار موازنة 2023 وتاريخ تقديم موعد موازنة 2024، وتحرير سعر الصرف، وإعادة هيكلة المصارف، وإقرار قانون يجيز لنواب الحاكم إقراض الحكومة من الاحتياطي الإلزامي مبلغاً لا يتعدّى 200 مليون دولار شهرياً على أن لا تتخطّى القيمة الإجمالية 1.2 مليار دولار خلال 6 أشهر، مع العلم أنّه في الفترة الماضية تكثّفت الاجتماعات بين النواب الأربعة والحاكِم المُغادِر.
في السياسة بدت لافتة مقاطعة نواب الحزب للجلسة الثانية التي مَثَل خلالها نواب الحاكم أمام لجنة الإدارة والعدل لتقديم خطتهم الإنقاذية في ظلّ عدم تنسيق الخطة مع الحكومة أو نائب رئيسها، وهو ما يشير إلى تباين بين الثنائي الشيعي حول خطة نواب الحاكم في التعاطي مع مرحلة ما بعد سلامة، ولا سيّما أنّ الحزب لم يظهر في “الكادر” إلا من خلال إعلان أمينه العامّ السيّد حسن نصرالله رفض تعيين حاكم لمصرف لبنان من دون وجود رئيس جمهورية.
ملاك عقيل- اساس