لماذا ضحى ريال مدريد بهذه الملايين لشراء «ميسي التركي»؟
بعد ضم خوسيلو وجود بيلنغهام، أعلن ريال مدريد الأسبوع الماضي عن ثالث صفقاته الصيفية، وأبرز صفقاته المستقبلية في نافذة 2023، بالاستيلاء على جوهرة فناربخشة أردا غولر، وفي رواية أخرى «ميسي التركي»، وذلك مقابل رسوم تحويل تبدو ضخمة مقارنة بعمره، تحديدا 20 مليون يورو بالإضافة إلى نصف المبلغ في صورة متغيرات، الأمر الذي أثار الاستغراب على نطاق واسع، وجعل المشجع المدريدي العادي يسأل ويتساءل من هو الموهوب التركي الجديد؟ ولماذا أنفق عليه اللوس بلانكوس هذا المبلغ الكبير؟
الأب المكتشف
يروي الأب أوميت في مقابلة مع موقع «Goal» العالمي، أنه كان يحلم برؤية صغيره يداعب الكرة بقدمه اليسرى، حتى أنه قال بالنص: «لم يكن لدينا أي شخص أعسر في العائلة، وكنت أتعجب عندما أضع أمامه البالونات وكرات القدم ويستخدمها بقدمه اليسرى»، وسرعان ما سارت الأمور كما كان يخطط لها الأب المكتشف، بظهور ملامح موهبة الصغير في عامه الثاني في المدرسة الابتدائية. وما ضاعف ثقة وإيمان العائلة في موهبة غولر الكبيرة، نصائح مدرس التربية الرياضية، لإسراع وتيرة الاستثمار في هذا الكنز الثمين، وحسنا فعل الوالد، بإرسال نجله إلى أكاديمية جينشلربرليغي التابع للعاصمة أنقرة، في خطوة كانت بمثابة المخاطرة بمستقبل الطفل الدراسي، بتركه في مقر تدريب الفريق البعيد جدا عن منزل العائلة. ويتذكر الوالد تلك اللحظات قائلا: «أخذنا أردا إلى هناك بإصرار لا يُصدق من معلم التربية الرياضية، وكنا محظوظين بما فيه الكفاية بعدما أظهر موهبته في الدورة التدريبية الأولى. وعلى الفور وقع اختيارهم عليه في الفريق»، ولولا دعم الوالد وتضحياته في أول محنة تعرض لها الصغير في رحلته الشاقة للبحث عن احتراف كرة القدم من الباب الكبير، لتوقف في سن الرابعة عشرة، عندما ابتعد عن التدريبات لفترة طويلة بداعي إصابته السيئة على مستوى الكاحل، وآنذاك تأثر مستواه بالإصابة وفترة الغياب الطويل، مع ذلك، لم يفقد الوالد أوميت الأمل في عودة ابنه كما كان قبل الانتكاسة، بل حتى أفضل مما كان، وهو ما حدث على أرض الواقع في عام 2019، بعد تنازل كبير من العائلة، وصلت الى حد الانتقال مسافة 500 كيلومتر تقريبا إلى اسطنبول، لدعم الصغير في تحقيق حلم طفولته، بالسير على خطى بطل الطفولة مع نادي فناربخشة أليكس دي سوزا.
ما بعد جائحة كورونا
تسببت الجائحة في عرقلة نمو وتطور صاحب الـ18 عاما، بشكل مؤقت، لكنه رفض العودة إلى نقطة الصفر، ومجرد استئناف النشاط الكروي، بدأ ينثر سحره وإبداعه مع فرق الشباب، استهلها بتسجيل ما مجموعه 10 أهداف وصناعة سبعة في 22 مباراة، لتأتي المكافأة في يناير/ كانون الثاني العام قبل الماضي، بمنحه أول عقد احترافي بعمر أقل من 16 عاماً. ومع الوقت، بدأ مدرب النادي فيتور بيريرا، يلاحظ توهج المعدن النفيس وصعوده النيزكي في فرق الشباب، ليقرر تصعيده إلى تدريبات الفريق الأول في موسم 2020-2021، ثم بتأهيله للعب مع الكبار بإجلاسه على مقاعد البدلاء في المباريات الرسمية، إلى أن جاءت نقطة التحول، بانفجار موهبته أمام ألانيا سبور، ثم بحفاظه على مكانه في التشكيل الأساسي في المباريات الفاصلة في اليوروبا ليغ، وما تبعها من بصمات لن تمحى من الذاكرة لفترات طويلة، على غرار تألقه في ليلة الريمونتادا أمام أنطاليا سبور، بتوقيعه على هدف الفوز بنتيجة 3-2، ليكون أصغر هداف في تاريخ النادي، في ظهور وصفه الإعلام التركي بالرائع، وعلى إثره لم يبتعد أبدا لفترات طويلة عن الفريق الأول، بل سجل بعدها هدفين وقدم تمريرة حاسمة في سلسلة من المباريات الرائعة في نهاية الموسم. ولم يكتف بذلك، بل نجح في البناء على ما قدمه في ختام موسم 2021-2022، بالنسخة الهوليوودية التي كان عليها مع الفريق في الموسم الماضي، بعد حصوله على قميص نجوم وأساطير النادي وفي مقدمتهم أليكس ومسعود أوزيل وروبن فان بيرسي وتونكاي سانلي، وحدث ذلك بتوجيه من المدرب البرتغالي جورج جيزوس. صحيح الأمر استغرق بعض الوقت، حتى يقتنع المدرب المخضرم بأحقية اليافع التركي في التشكيل الأساسي، وتحديدا بعد عرضه المميز أمام قاسم باشا في يناير/ كانون الثاني الماضي، لكن منذ ذلك الحين، أصبح أردا، من أهم مفاتيح لعب جورج، وأثبت ذلك بشكل عملي في مباراة نهائي كأس تركيا ضد باشاك شهير، بصناعة الهدف الحاسم للبلجيكي ميتشي باتشواي، كواحد من أبرز المساهمين في حصول الفريق على لقب الكأس للمرة الأولى منذ عام 2014.
شياطين كرة
كانت لحظة المكافأة الحقيقية لموسم أردا المميز مع ناديه، تلك اللوحة الإبداعية التي رسمها في ظهوره الأخير في الموسم الفائت في مباراة تركيا ضد ويلز، بتسديدة يسارية يُقال عنها أنها من الزمن القديم، وكأنها صاروخ بالتقنية الأنيقة لأصحاب القدم اليسرى الذهبية، من مكانه المفضل في مركز الجناح الأيمن المهاجم، على طريقة محمد صلاح مع ليفربول، ورياض محرز مع مانشستر سيتي، وقبل الجميع ليونيل ميسي في سنوات المجد مع برشلونة، وبالنظر إلى خطواته الثعلبية ونظراته الماكرة للمدافعين وحراس المرمى، ما فسر بسهولة سبب شهرته باسم «ميسي الأتراك»، بجسده النحيف نوعا ما، وقامته التي لا تزيد على 1.75 متر، والأهم قدرته على إحداث كل أنواع الفوضى في دفاعات المنافسين، لقدرته الهائلة على مراوغة لاعبين أو ثلاثة، بحيل متنوعة في المرور، مع تحكم دقيق في الكرة يسمح له بوضع زملائه في مواقف رائعة في الثلث الأخير من الملعب. وما يميزه عن كثير من زملائه في نفس الفئة العمرية، هو ذكاؤه الفطري وحسن تصرفه بالكرة في البقاع السحرية داخل الملعب، بتطويع مهارته في المراوغة والتمرير لمصلحة الفريق، وليس برفع شعار «الاستعراض من أجل الاستعراض»، رغم أنه من سلالة قريبة من سحرة البرازيل في المراوغة والاستعراض، كلاعب تفوح منه الجرأة والشجاعة، حتى أنه أحيانا يتعمد الذهاب إلى المدافعين ليبث في قلوبهم كل أنواع الذعر الكروي، بطريقته الشيطانية في تخطي اللاعبين.
ماذا بعد؟
لا شك أبدا، أننا نتحدث عن لاعب صغير في السن، وما زال أمامه الوقت والمجال للتحسن بصورة أفضل على المدى المتوسط، ومن المرجح أن تتطور موهبته في مدينة «فالديبيباس» في المرحلة المقبلة، في ظل إصراره على تحقيق أحلامه وطموحاته الكبيرة، بالسير على خطى السحرة المبدعين بالقدم اليسرى، وعلى رأسهم الكبير ليونيل ميسي. وبعد انتقاله إلى الريال، سيكون أمامه طريقان لا ثالث لهما، إما يسقط في المحظور ويحاكي تجربة الياباني كوبو والبرازيلي رينير جيزوس وباقي الشباب الذين فشلوا في تحمل ضغط اللعب لناد بحجم ريال مدريد، وإما يثبت أن مدربه السابق إيرول توكوزلر كان على صواب، عندما قال ذات مرة لشبكة «سي إن إن»، إن اكتشافه في جينشلربيرليغي «لن يبقى في تركيا لفترة طويلة»، في فترة ارتباط مستقبله بمدفعجية آرسنال وزعيم الألمان بايرن ميونيخ، وها قد تحقق النصف الأول من النبوءة، بانتقال جوهرة تركيا القادمة إلى نادي القرن الماضي، فقط يتبقى للصغير أن يشق طريقه نحو الفريق الأول للميرينغي، حتى لو اضطر للخروج من «سانتياغو بيرنابيو» على سبيل الإعارة، ليكتسب ما يكفي من خبرة واحتكاك مع الكبار، أو يكون محظوظا بما فيه الكفاية، ويفرض نفسه على مدرب الفريق الأول كارلو أنشيلوتي، أو على الأقل يكون ضمن خططه في حالات الطوارئ والإصابات، بنفس الإستراتيجية المتبعة في السنوات القليلة الماضية، حيث يتم تحضير المواهب الشابة نفسيا وذهنيا، قبل الدفع بهم بشكل تدريجي مع الكبار، كما حدث مع نجوم المستقبل فينيسيوس جونيور، ورودريغو غوس، وإدواردو كامافينغا وباقي النماذج الشابة التي تراهن عليها الإدارة، والسؤال الآن: هل سيكون أردا غولر الرهان المدريدي الجديد الرابح؟ أم سيصاب بمتلازمة رهاب اللعب لأكبر وأشهر نادي كرة قدم في العالم؟ هذا سيتوقف على اللاعب وقدرته على تحمل الضغوط الإعلامية والجماهيرية.
القدس العربي