يخرج سلامة من الحاكمية مهشماً: أي رياح ستلفح لبنان بعده؟
أي رياح ستلفح لبنان ما بعد رياض سلامة:
معضلة خلافة أم بداية مرحلة جديدة من «عدم اليقين»؟
في بلاد الأرز، الكلّ يُغني على ليلاه. مسؤولون بلا مسؤولية، سياسيون قابضون على شعب يسير خلفهم دون سؤال، لا يفعل سوى ترداد كلمة «لبّيك» حتى ولو أضحى على «الحديد» ويعيش من قلّة الموت متحسراً على أيام «الزمن الجميل» ومتشوقاً لأن يستعيد صوراً من «أيام العزّ» في فصل الصيف وموسم السياحة وعجقة الزائرين إلى لبنان.
يعجُّ مطار رفيق الحريري الدولي يومياً بوصول الآلاف من أبنائه مع عائلاتهم لقضاء إجازاتهم حاملين معهم عملة صعبة سيضخونها في البلاد خلال الموسم السياحي عبر المهرجانات، والحفلات، والفنادق، والمطاعم، والمقاهي، والملاهي، والمحال التجارية. غالبية الزائرين هم من اللبنانيين الذين هاجروا بحثاً عن فرصة عمل وحياة لائقة. وثمة نسبة كبيرة من العراقيين التي باتت تقصد لبنان بشكل دائم على مدار فصول السنة، ليس فقط بغرض السياحة، فضلاً عن عودة خليجية خجولة.
الرهان على المغتربين الآتين لأسابيع قليلة بما يُشكِّله من فرصة انتعاش وسط انهيارات متتالية اقتصادية واجتماعية وصحية ومالية ومؤسساتية يُساهم في تفاقمها انسداد أفق إنهاء الشغور الرئاسي منذ انتهاء ولاية العماد ميشال عون في الثلاثين من تشرين الأول/أكتوبر 2022. تكرُّ سبحة الشغور. ففي الواحد والثلاثين من تموز/يوليو الجاري، تنتهي ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أعلى سلطة نقدية في لبنان. وعلى مقربة أسبوعين، ليس واضحاً ما الذي ينتظر البلاد بدءاً من الأول من آب/أغسطس وسط انقسام يأخذ منحىً طائفياً في البلاد مثل أي قضية سياسية. يُعدُّ موقع حاكم مصرف لبنان، كما موقع قائد الجيش، من المواقع المارونية الأساسية في الدولة، إلى جانب موقع رئاسة الجمهورية، ويحرص رئيس الجمهورية على أن يتماهى شاغلاً هذين الموقعين مع سياسة العهد بوصفهما السلطتين النقدية والعسكرية ومفتاحين رئيسيين في إدارة البلاد.
أمضى سلامة 30 سنة في موقعه. عُـيِّـن العام 1993 في عهد الرئيس الياس الهراوي. كان الرجل يشغل موقع نائب الرئيس في شركة «ميريل لينش» العالمية وصاحب خبرة واسعة، فجاء به رئيس الحكومة حينها رفيق الحريري الآتي من عالم الأعمال إلى عالم السياسة بمشروع طموح يُعيد إعمار لبنان ويستعيد دوره على الخارطة بعد 15 سنة من الحرب. وفق القانون، فإن مدة ولاية حاكم البنك المركزي هي ست سنوات، كان يُفترض أن تنتهي في 1999، لكن الرجل أمضى في الحاكمية 30 سنة مع تجديد لأربع ولايات، فكان أن رافق عهوداً أربعة ورؤساء حكومات عديدين، وطبقة سياسية على مرّ ثلاثة عقود شكَّلت المنظومة الحاكمة، في ظل موازين قوى إقليمية شهدت تبدلات وانقلابات وتركت تداعياتها الداخلية والخارجية، وفي ظل اغتيال رفيق الحريري (2005) الرجل الذي فاق تأثيره وحجمه حجم هذا الوطن الصغير الذي لا يزال إلى اليوم يعيش ارتدادات ذلك «الزلزال السياسي».
مسيرته المهنية
يخرج سلامة من الحاكمية مهشماً في مسيرته المهنية، تُرفع ضده دعاوى قضائية وتُهم فساد واستخدام نفوذ وتبييض أموال في فرنسا ودول أوروبية، وتُسطَّر في حقه مذكرات توقيف عبر الانتربول. يتلقف القضاء المحليّ الكرة ليشكِّل في واقع الحال درع حماية لحامل أسرار «الصندوق الأسود اللبناني» الذي إنْ سقط فلن يسقط وحيداً بل ستسقط معه تركيبة المنظومة السياسية التي عمل الحاكم على تمويلها ونسج شبكة مصالح متداخلة متجانسة ومتماسكة لسنوات طويلة.
سيكون مصير «رئيس المركزي» و«صندوقه الأسود» محور قلق دائم لمجموعة المنتفعين من سياسيين ومصرفيين واقتصاديين وماليين ونافذين. هذا أمر أكيد، لكن المقلق بالنسبة إلى اللبنانيين هو الغموض الحاصل وحالة عدم اليقين التي تنتظرهم وتنتظر البلاد ما بعد 31 تموز/يوليو الحالي، وكأنها بداية الدخول في عالم المجهول المفتوح على كل الاحتمالات الصعبة والسلبية و«السيناريوهات» السوداء. البعض يتحدث عن تهويل إعلامي لانهيار محتمل ما بعد خروج سلامة بما «يُبيِّض» صفحة الرجل حين تسوء الأحوال. لا شك أن هناك «أوركسترا» سياسية واقتصادية وإعلامية كانت وما زالت وستبقى تعزف لحن الحاكم، لكن ثمة أسئلة مشروعة يظللها خوف من قادم الأسابيع والأشهر: ما الذي سيحدث بعد 31 آب/أغسطس؟ حتى الآن «السيناريوهات» متعددة، والانقسامات مستمرة.
الانطباع السائد بأن الرقص على حافة الهاوية الحاصل في ما تبقّى من وقت هدفه الدفع في اتجاه التمديد أو التجديد للحاكم. ورغم أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أصدر مواقف عدة خلال الأيام الماضية مؤكداً أن لا تجديد ولا تمديد لسلامة، فإن هذا الاحتمال يبقى حاضراً إلى اليوم الأخير من الولاية، حتى إن كتاب نواب الحاكم الأربعة الذي حمل تهديداً ضمنياً بالاستقالة فسّرته كل جهة بما يناسبها في معركتها السياسية. منهم من رأى أنها وسيلة ضغط لتحرُّك ما قد يصبُّ في صالح التمديد لسلامة، ومنهم من رأى أنه نابع من «الحمل الثقيل» الذي سيُلقى على كاهل النواب في أزمة سابقة لتاريخ تعيينهم، وتفادياً «لكرة النار» التي ترميها عليهم الطبقة السياسية التي هي جزء من الأزمات المتعددة التي تغرق فيها البلاد، بحيث تقاعسوا عن قصد في عدم السير بخطة إنقاذ وتعافٍ ماليّ واقتصاديّ وبخارطة الإصلاحات المطلوبة لاتفاق مع صندوق النقد الدولي يُؤمِّن الثقة، ويفتح الطريق أمام الدول المانحة لمساعدة ودعم لبنان لإنعاش اقتصاده وتأمين واستقراره.
«السيناريو» الأمثل هو تعيين حاكم جديد نظراً إلى أهمية هذا الموقع ودوره في عملية الإصلاح الاقتصادي والمالي، وإلى العلاقات التي يمتلكها «البنك المركزي» مع المؤسسات الدولية. في رأي كثيرين، ومنهم نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي الذي يقود فريق التفاوض مع صندوق النقد، والذي له باع طويل في التعامل مع المؤسسات المالية الدولية، أنه لا يجوز أن تبقى البلاد من دون حاكم مصرف أصيل، وأنه كان على الأفرقاء السياسيين الموجودين في الحكومة، وحتى أولئك الذين خارجها، أن يتفقوا على اسم حاكم جديد. صحيح أن من الأفضل أن يكون ذلك بوجود رئيس للجمهورية وحكومة كاملة الصلاحيات، ولكن حين يكون الاتفاق على شخصية اقتصادية لا غبار عليها، نظيفة الكفّ وتستطيع أن تقوم بالعمل المطلوب وتحظى بالإجماع أو الأكثرية، عندها لن يكون عليها اعتراض كونها تتمتع بمظلة وطنية.
هذا الخيار أمامه اعتراضات في ظل حكومة تصريف الأعمال، ووجود اعتراض مسيحي لممارسة السلطتين التنفيذية والتشريعية مهامهما وكأن عمل المؤسسات الدستورية منتظم في غياب رئيس الجمهورية، في وقت لا يحقُّ للحكومة إلا تصريف الأعمال بالمفهوم الضيِّق، والذي لا يتناول تعيينات في المراكز والمواقع الأساسية في الدولة. ولا يحقّ لمجلس النواب التشريع كونه يتحوَّل مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية إلى هيئة ناخبة أولى مهامها انتخاب رئيس للجمهورية، ورغم أن الدستور يلحظ تفاصيل العملية الديموقراطية للانتخاب، إلا أن الأمر أضحى يتخطى لعبة الأصوات في ظل مواجهة لا تأخذ فقط بعداً سياسياً بل طائفياً أيضاً، فانتخاب رئيس للجمهورية تحوَّل إلى مواجهة مسيحية – شيعية بفعل أن «الثنائي الشيعي» يحظى بكامل الأصوات الشيعية في المجلس، وهو يتمسَّك بمرشحه سليمان فرنجية الذي تعارضه الكتلتين المسيحيتين الأكبر في البرلمان مع طيف واسع من المعارضة سواء على ضفة المستقلّين أو التغييرين.
المراوحة الإقليمية والدولية
هذا الانسداد السياسي يعكس في جانب كبير منه حال المراوحة الإقليمية والدولية. وبالرغم من تحرُّك الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان واللجنة الخماسية الأمريكية – الفرنسية – السعودية – المصرية – القطرية المعنية بالملف اللبناني، إلا أن وضع الأزمة اللبنانية على سكّة الحل لا يبدو في الأمد المنظور ما دامت التسويات الكبرى وما يتفرَّع عنها من تسويات أصغر لم تتضح معالمها بعد.
يبدو واضحاً أن الضغوطات الغربية هي في منحى تصاعدي: تقرير صندوق النقد حول لبنان بحسب المادة الرابعة يُعيد دقّ ناقوس الخطر، ويتحدث عن تصاعد حالة عدم اليقين المخيّمة على الآفاق الاقتصادية التي ترتبط بخيارات السياسات المعتمدة من قبل السلطات، ويربط أي دعم للمانحين بتنفيذ الإصلاحات التي يطلبها الصندوق قبل توقيع الاتفاق النهائي معه؛ مجموعة العمل المالي (غافي – فاتف) منحت لبنان فترة سنة لتنفيذ الإجراءات المطلوبة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وانتشار التسلّح لتفادي إدراجه على اللائحة الرمادية؛ البرلمان الأوروبي صوَّت على قرار يشرح الأزمة اللبنانية بكل مضامينها ووجوهها. وهو اعتبر أن السبب في الوضع الحالي هم السياسيون المنتمون إلى كل الطبقة الحاكمة وعرقلة الأحزاب المسلحة بشكل غير قانوني للعملية الديموقراطية والدستورية داعياً إلى نزع سلاحها، كما دعا النخبة السياسية اللبنانية إلى تحمُّل نصيبها من مسؤولية الوضع الراهن في البلاد، رافعاً عصا العقوبات التي يلاقي بها عصا العقوبات الأمريكية.
يقول بعض العارفين ببواطن الأمور أن المنظومة السياسية أضحت على يقين بأنَّ هوامش المناورة تضيق، وأن الخناق بدأ يضغط على الرقاب، وأن العقوبات لن تتوقف عند باب الدار كما جرى مع بعضهم من قبل، بحيث تستهدف مساعدين ووزراء ورجال أعمال، بل ستتناول هذه المرة قلب البيت والعائلة، رغم اعتراف هؤلاء بأن المعركة لن تكون سهلة مع المنظومة المتجذرة في الدولة وفي مفاصلها.
ومع استبعاد تعيين حاكم أصيل واستبعاد أن يتم التجديد أو التمديد للحاكم الحالي، فإن «السيناريو» الذي ينصُّ عليه قانون النقد والتسليف في المادة 25 ينص «على أن يتسلّم نائب الحاكم الأول (وهو وسيم منصوري من الطائفة الشيعية) مهمة الحاكم إلى حين تعيين حاكم أصيل». ليس «سيناريو» تعيين حارس قضائي يلقى قبولاً واستحساناً. سيناريو استلام النائب الأول للحاكم مهام الحاكم يبدو أنه الأرجح، وإن كانْ الاعتقاد السائد بأن نواب الحاكم الأربعة سيقدمون على الاستقالة قبل انتهاء ولاية الحاكمية، نظراً إلى توجسهم من المرحلة المقبلة، ولا سيما أن هؤلاء لا يسعهم الحصول على غطاء سياسي واسع كما كان الأمر حاصلاً في زمن سلامة. فالرجل أنشأ منصة «صيرفة» ووضع آلياتها من خارج موافقة المجلس المركزي وفي ظل اعتراض نوابه. وهو موَّل «صيرفة» من الاحتياطي، أي من أموال المودعين من دون مسوغ قانوني، حتى أن بعض الاقتصاديين يؤكدون أن لا رقابة لأحد على «صيرفة» وأنها كـ»الصندوق الأسود» الذي لا أحد يعرف شيئاً عنه، ما يزيد الشكوك من أنها كانت قناة لتهريب العملة للخارج ولعمليات غسل الأموال.
ومهما كان الأمر سابقاً مع الحاكم، لا يمكن لنوابه استخدام الاحتياطي الإلزامي للتدخل في السوق من دون غطاء قانوني، وهو ما يستدعي وفق الخبير الاقتصادي روي بدارو من رئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة العمل لتأمين ذلك من خلال إقرار قانون معجّل مكرّر لتعديل قانون النقد والتسليف. ومن غير الواضح ما سيكون عليه مستقبل منصة «صيرفة». لم يكن خافياً أن خلافاً كان قائماً بين سلامة ونوابه على منصة «صيرفة». قبل أيام، خرج نائب حاكم مصرف لبنان سليم شاهين ليعلن رفض بقاء منصة «صيرفة» بآليتها الحالية. وهي آلية يستفيد منها أناس محددون على حساب المودعين، وتضرب الشفافية المطلوبة لتبيان مدى الالتزام لبنان بتدابير مجموعة «غافي». الجديد هو ما كشفه سعادة الشامي عن وجود «بعثة مساعدة فنية» في مصرف لبنان تقوم بتقديم اقتراحات لكيفية تحويل منصة «صيرفة» إلى منصة حقيقية يُحدّد فيها سعر الصرف تكون مدخلاً إلى توحيد سعر الصرف في وقت قريب.
ما يُثير مخاوف اللبنانيين هو انتقال البلاد إلى مزيدٍ من حال التخبّط والاضطراب المالي، فينفلت سعر صرف الدولار مقابل الليرة دون كوابح ما دام ليس في الأفق حلول سياسية ولا توافق على إنهاء الإصلاحات والسير بخطة إنقاذ مالي وتعافٍ اقتصادي والذهاب بجرأة إلى توقيع الاتفاق مع صندوق النقد. فموسم السياحة وضخ العملة الصعبة الذي يُنعش بعض القطاعات في البلاد سينتهي مع شهر أيلول/سبتمبر المقبل، ليدخل لبنان فصلاً جديداً من الأزمة الخانقة ولا سيما مع ارتفاع منسوب «الدولرة» التي باتت تطال كل شيء تقريباً.
رلى موفق- القدس العربي