معاناة لبنان مع معضلة بلدة الغجر الثلاثية الحدود مستمرة

تشهد الحدود اللبنانية – الإسرائيلية موجات من المد والجزر تتراوح بين التصعيد والتهديد والخروقات والاعتداءات، بدأت منذ أقام “حزب الله” خيمتين إحداها تجاوزت الخط الأزرق عند مزارع شبعا. ووفقاً لتقارير صحافية إسرائيلية فإن “الحزب” أقام موقعين عسكريين في كفرشوبا، مما استدعى تحذيراً إسرائيلياً عبر “رسالة دبلوماسية” من خلال الأمم المتحدة، من أنها ستستخدم القوة العسكرية لإخلاء الموقعين. وتعهد الجيش الإسرائيلي بإزالة الخيم من هناك عبر الدبلوماسية أو بالقوة. ورد لبنان الرسمي على الطلب الإسرائيلي بإزالة الخيم على لسان وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبدالله بو حبيب الذي قال إنه “تم البحث في الأوضاع الأمنية في الجنوب، ونقلوا لنا مطلب الجانب الإسرائيلي بإزالة الخيمة”، مضيفاً “كان ردنا بأننا نريدهم أن يتراجعوا من شمال الغجر التي تعتبر أرضاً لبنانية. ونحن من ناحيتنا سجلنا نحو 18 انتهاكاً إسرائيلياً للحدود”.

جاء ذلك بعد اجتماع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مع قائد قوات الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان (اليونيفيل) الجنرال أرولدو لازارو، وكان ميقاتي تحدث في وقت سابق عن استعداد لبناني “لترسيم كامل الحدود الجنوبية مع إسرائيل”. تزامناً حط كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين في تل أبيب، وربطت الصحف اللبنانية بين الزيارة وتهدئة التوتر على الحدود الجنوبية، انطلاقاً من موقع هوكشتاين في الإدارة الأميركية، وتحدثت عن مسعى له إلى احتواء التوتر لئلا يؤثر في التحضيرات الجارية لإطلاق عملية التنقيب في البلوك البحري الرقم 9 التابع للبنان في سبتمبر (أيلول) المقبل.

نزاع حول بلدة الغجر

وكان الجيش الإسرائيلي ضم الجزء اللبناني الشمالي من بلدة الغجر جنوب شرقي لبنان، ونصب إنشاءات له هناك، ووضع سياجاً شائكاً وجداراً إسمنتياً حول البلدة، ورداً على ذلك أعلن بوحبيب أن “لبنان سيتقدم بشكوى لمجلس الأمن الدولي لإزالة هذا الخرق، وانسحاب إسرائيل من المنطقة المحتلة تطبيقاً للقرار 1701″. واعتبرت الدولة اللبنانية أن السياج حول الغجر هو محاولة من الاحتلال الإسرائيلي لضمها. وتزامناً استهدفت قوات إسرائيلية ثلاثة أشخاص قالت إنهم عناصر تابعين لـ”حزب الله” اقتربوا من السياج الحدودي. وفي الذكرى الـ17 لحرب يوليو (تموز) 2006 رفض أمين عام “حزب الله” حسن نصر الله في خطاب له منطق الحديث عن “ترسيم حدود برية” بين لبنان وإسرائيل، وطالب “بانسحاب العدو من النقاط اللبنانية المحتلة”، مؤكداً أن أرض بلدة الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا “لن تترك للإسرائيلي”، وأن الغجر “أرض لبنانية أعاد العدو احتلالها”، معتبراً أن مسؤولية إعادتها للبنان بلا قيد أو شرط تقع على “الدولة والشعب والمقاومة”. وأوضح أن “الحزب” نصب “خيمة على الحدود داخل الأراضي اللبنانية، وخيمة أخرى داخل خط الانسحاب في مزارع شبعا”، وحذر إسرائيل من التعرض للخيمتين، وقال إن عناصره “لديهم توجيه للتعامل مع أي تعرض إسرائيلي لهم”، مضيفاً أن “الانتصار في يوليو أسس لميزان ردع قوي وكبير لحماية لبنان، ويعمل بقوة منذ 17 عاماً”.
وكشفت “القناة 12” الإسرائيلية في تقرير لها عن اقتراح أميركي لحل أزمة خيمتي “حزب الله”، وقالت في التقرير إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قدمت مقترحاً، لحل أزمة الخيمة التي نصبها الحزب داخل منطقة حدودية، وبأن العرض الأميركي يشمل إقدام الحزب على تفكيك “الخيمة العسكرية”، في مقابل توقف السلطات الإسرائيلية عن بناء سياج حدودي وعائق أمني في محاذاة قرية الغجر الحدودية.

قرية الغجر

وتقع قرية الغجر في منطقة الجولان وهي قرية صغيرة مساحتها لا تتعدى 2,461 كيلومتر مربع، على الجهة الشرقية لنهر الحاصباني، والسفوح الغربية لجبل الشيخ، كما ترتفع نحو 310 أمتار عن سطح البحر. سكانها من الطائفة العلوية، لا يتجاوز عددهم 2900 شخص اليوم. وفي أواخر العهد العثماني وبإيعاز من الباب العالي، تولى الأكراد حكم قرية الغجر وكانوا أول من استبدل اسم القرية من “طرنجه” إلى “الغجر”، وفي ذلك الوقت كانت القرية تابعة لحوران قضاء القنيطرة السورية. وبعد الحرب العالمية الأولى، شملت القرية بسيطرة الانتداب الفرنسي الواقع على كل من سوريا ولبنان، وكانت جميع سجلاتها الرسمية في القنيطرة ودمشق.

في عام 1932 خلال فترة الانتداب، خير أهالي القرية بشأن المواطنة ما بين لبنان وسوريا فاختاروا المواطنية السورية حيث الوجود الأكبر للطائفة العلوية للحفاظ على أمنهم وترابطهم مع بقية الطائفة. وبالفعل حصل أهلها على المواطنة عند استقلال سوريا في “عيد الجلاء” في الـ17 من أبريل (نيسان) 1942. وفي إحصاءات عام 1960 كانت الغجر ضمن إحصاءات سكان الدولة السورية، ويرد اسم القرية بين التجمعات السكانية السورية، ويشار إلى 11 مزرعة من مزارع شبعا (مع بعض المزارع الأخرى) كمزارع تابعة للقرية، وعدت السلطات السورية في ذلك الإحصاء 620 نسمة في قرية الغجر (ما عدا سكان المزارع).

ثلاثية الحدود

ما يميز تلك القرية جمعها لحدود ثلاث دول، يوجد بينها حرب وعداء وهي إسرائيل ولبنان وسوريا. وتعتبر المكانة السياسية لقرية الغجر وسكانها من أكثر المشكلات تعقيداً ضمن حال التوتر السائدة بين تلك الدول الثلاث. وحتى يونيو (حزيران) 1967 كانت القرية تخضع للإدارة السورية، وعندما رسمت الحدود بين سوريا ولبنان وقعت القرية في المنطقة الفاصلة ولم توضح السيادة عليها. وخلال حرب الأيام الستة 1967 احتلت إسرائيل منطقة الجولان من سوريا، لكنها لم تدخل قرية الغجر لاعتبارها لبنانية بحسب الوثائق التي كانت في حوزتها.

ويقول أحد سكان القرية “كنا دولة مستقلة لمدة ستة أشهر، بحدود مغلقة، لم يخرج أحد ولم يدخل أحد. كان هناك حظر تجول في القرية من الساعة 6 مساء حتى 6 صباحاً، وفي وقت ما نفد الطعام وكان يفترض على شخص ما الاعتناء بنا. بعد ستة أشهر تلقينا قطعة صغيرة من الورق كانت تصريح دخول إلى إسرائيل والعمل هناك”. وتفاوتت سيطرة إسرائيل السياسية والعسكرية على القرية منذ عام 1976، حتى صيف عام 2000 عندما انسحبت مما يسمى بالمنطقة الأمنية في جنوب لبنان، وكانت قرية الغجر على خط الجبهة مباشرة. في ذلك الوقت، رسمت الأمم المتحدة الخط الأزرق المذكور على الورق، ويقسم القرية إلى شمال لبناني وجزء إسرائيلي جنوبي. وهذا الخط افتراضي، لأنه لا يمكن بناء حجارة أو جدران حقيقية. واعترض مواطنو قرية الغجر عليه، بحسب تقرير لراديو “إي أر دي” (ARD) الألماني. ويقول جمال الخطيب، معلم ومرشد سياحي من أبناء القرية في مقابلة مع إحدى الوسائل الإعلامية الإسرائيلية أجريت في ديسمبر (كانون الأول) 1993، إن “الغجر لم تنتم إلى لبنان بل إلى سوريا. كانت لأبي بطاقة هوية سورية.

في حرب الأيام الستة جاء الجيش الإسرائيلي متجهاً من شرق القرية. وبحسب الخرائط البريطانية التي كانت لديهم، قرر الضباط أن القرية تقع على الأراضي اللبنانية، فلم يحتلوا القرية إلا أنهم اكتفوا بجمع الأسلحة وقالوا لنا إننا لبنانيون. قلنا: حسناً. رفض اللبنانيون قبولنا خشية أن يعتبروا كمن ضموا إليهم أرضاً سورية، لذلك حظروا علينا اجتياز الحدود. لمدة شهرين ونصف شهر أصبحت الغجر دولة مستقلة مكونة من 36 عائلة بين لبنان وإسرائيل. نصف سكان القرية، أي 350 نسمة تقريباً، هاجروا إلى سوريا إثر الحرب. عندما فرغت مستودعات الأغذية توجهنا إلى الحاكم العسكري وطلبنا منه رفع مشكلتنا إلى الكنيست. بعد أسبوعين عاد ورفع العلم الإسرائيلي فوق القرية”.

لأية دولة ينتمي أهالي قرية الغجر؟

يقول علي الخطيب لراديو “إي أر دي”، “لم نكن نعرف من نحن، هل نحن إسرائيليون؟ لبنانيون أم سوريون؟ لقد كانت فوضى كبيرة، أرادوا الانضمام إلى لبنان، لذلك فكرت في ذلك الوقت: حسناً فأنا لبناني الآن. ثم قالوا نحن ذاهبون إلى سوريا وظننت حسناً أنني سوري، ولكن بعد ذلك قالوا إن إسرائيل تريد أن تبقينا. في البداية لم نكن نعرف ماذا أو من نحن، ولكن بمرور الوقت حصلنا على حقوق هنا في البلد، بدأنا بدفع الضرائب وحصلنا على هويتنا الزرقاء. وحيث كنت أعيش خارج القرية بدأت أعرف نفسي على أنني إسرائيلي”.

القرية تشهد نهضة سياحية

ويتابع علي أن هذا انتصار لقريته. ويضيف “كل بضعة أشهر يبدأ مشروع جديد. ثم استطعت أن أرى كيف ظهرت البنية التحتية والطرق والمحال التجارية والنظام واللوائح. كانت القرية تبدو مختلفة تماماً، كنا معزولين ومن دون سياح، لا أقول إن الأمر كان سيئاً من قبل، لكننا الآن نشهد تحسناً نحو الأفضل”. وصار السياح يتوافدون على القرية الصغيرة التي يرتدي سكانها ملابس رائعة، وأصبحت الشوارع نظيفة والحدائق معتنى بها جيداً. وأصبح السياح الإسرائيليون الذين يسمح لهم بالقدوم إلى القرية يزورون بشكل أساسي حديقة السلام، وهي حديقة صغيرة ذات مناظر طبيعية جميلة في وسط القرية. وتقول إحدى السائحات “المكان نظيف ومحافظ عليه جيداً مع جو رائع للغاية وهناك شعور بالتعايش تشعر بأن المكان يعانقك ويوجد شيء لطيف للغاية وأنيق ومريح في الهواء”، وفقاً لتقرير القناة الألمانية.

الغجر سورية احتلتها إسرائيل

هنا لا بد من الإشارة إلى أن جميع سكان القرية في الشقين اللبناني والإسرائيلي يحملون الجنسية الإسرائيلية، والقرية محاطة بسياج عسكري من جميع جهاتها. ويقول العميد الركن في الجيش اللبناني خالد حمادة لـ”اندبندنت عربية”، “إن الضبابية التي أحاطت بموقف الدولة اللبنانية مما سمي الجزء اللبناني من قرية الغجر، لطالما طرحت تساؤلات عدة منذ الانسحاب الإسرائيلي في عام 2000، الذي تلاه ترسيم للحدود تكرر بعد عام 2006 مع وضع القرار الدولي 1701 موضع التنفيذ. وبقيت التساؤلات جميعها من دون إجابات”.

ويوضح، أن “قرية الغجر هي قرية سورية احتلتها إسرائيل عام 1967. وما يسمى بالجزء اللبناني منها، ليس مرده إلى شراكة عقارية لبنانية – سورية أوجدتها معاهدة “بوليه نيوكومب” بين فرنسا وبريطانيا في عام 1923 أو اتفاق الهدنة في عام 1949، بل سببه التمدد العمراني لسكان هذه القرية من التابعية السورية إلى الداخل اللبناني في ظل الاحتلال الإسرائيلي، حتى أصبح أكثر من نصف منازلها ضمن أراض تتبع عقارياً لقرية الماري اللبنانية. ويضيف أنه “ما من تحفظ لبناني أو إسرائيلي عن ذلك الجزء من الحدود، وليس الوضع القائم هناك سوى احتلال سافر لأراض لبنانية من دون وجه حق.

كما أن سكان قرية الغجر السورية المحتلة، بخلاف كل الغجر المنتشرين في العالم لا يعانون الاضطهاد، وهم اختاروا جهاراً البقاء تحت الاحتلال في عام 2000، وهم ليسوا مضطرين إلى الانتقال والترحال عن الأراضي اللبنانية، التي لن تجرؤ سلطة مترددة على المطالبة بها بل جل ما قامت به هو تحويل لبنان إلى جمهورية الغجر”.

شبعا والغجر ذريعة لتمديد صلاحية السلاح

ولطالما طرحت جنسية أهالي قرية الغجر إشكالاً لن يحل قبل استكمال الترسيم البري للحدود بين لبنان وسوريا وإسرائيل، ويعتبر العميد خالد حمادة أن “المقاربة اللبنانية لمسألة الغجر أدت إلى تقديم أكثر من ذريعة للعدو الإسرائيلي لجعلها حالاً مماثلة لمزارع شبعا. قرية الغجر ومزارع شبعا هما منطقتان سوريتان احتلتهما إسرائيل عام 1967، ثم تمددت قرية الغجر السورية المحتلة إلى الداخل اللبناني وتمدد معها الاحتلال الإسرائيلي إلى جزء من لبنان، وبالمثل أدخلت مزارع شبعا عنوة إلى الخرائط اللبنانية الجديدة بعد عام 2000 بقرار من دمشق لتحميل لبنان وزر احتلال إسرائيلي وتمديد صلاحية السلاح، باعتبار أنه ما زالت هناك أراض محتلة. وما يجمع الاحتلالين هو إخضاع التعامل معهما لأجندة إيرانية”.

اندبندنت

مقالات ذات صلة