بكركي تعلن النفير… ورسائل إلى المسيحيّين والمسلمين!
طرح البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في “لقاء الهويّة والسيادة” الذي ترأسه أوّل من أمس الأربعاء، وقدّم فيه مطالعة عن عمق الأزمة اللبنانية انطلاقاً من مفهوم البطريركية المارونية، طرح فكرتين:
– أوّلاً: نعى الحوار في قوله إنّ الحسابات الخاصة للسياسيين أقوى من رغبتهم بالحلول على طاولة حوار.
– ثانياً: جدّد الدعوة إلى تنظيم مؤتمر دولي حول لبنان في ظلّ عجز اللبنانيين عن إنجاز استحقاقاتهم الدستورية.
أتت هذه الخلاصة نتيجة تراكم المبادرات التي قامت بها البطريركية وفشلت فيها. وها هي اليوم تعلن النفير: “لا خلاص للبنان إلا بدولة مدنية لامركزية حيادية، وإذا لم يحصل ذلك فإنّ لبنان الذي نعرفه ذاهب إلى زوال”.
جاءت دعوة بكركي هذه في هذا التوقيت بالتزامن مع صعود نزعات الفدرالية والتقسيم، التي تجد لنفسها مساحات متقدّمة في الإعلام، ومع ما يعتبره المسيحيون محاولات “الثنائي الشيعي” فرض رئيس ماروني عليهم بالحسنى أو بالقوّة. وفي المقابل عبّر الشيخ صادق النابلسي، المتحدّث غير الرسمي باسم الحزب، الذي لطالما كان كلامه واضحاً ويعجز الحزبيون الرسميون عن قوله: “إن لم نستطع بالحوار التوصّل إلى صيغة معيّنة لرئاسة الجمهورية، قد تكون الحرب مع إسرائيل أفضل وسيلة… والحزب لن يقبل بالتراجع. وفرنجية ضمانتنا”.
رسائل بكركي إلى المسيحيّين والمسلمين
تتحدّث مصادر مقرّبة من الصرح البطريركي لـ”أساس” عن غضب البطريرك من فشل كلّ محاولاته التقريب بين اللبنانيين:
– أوّلاً، فشل التقريب بين المسيحيين أنفسهم، حين رفضت القوى المسيحية الجلوس إلى طاولة بكركي لحلّ الأزمة الرئاسية.
– ثانياً، وصول مبادرة الراعي مع الثنائي إلى طريق مسدود، بعدما توسّط مطران بيروت بولس عبد الساتر وزار حارة حريك، فسمع من الأمين العامّ للحزب جواباً غير قابل للحوار، خلاصته أنّ الحوار يكون حصراً حول سليمان فرنجية… أو الفراغ.
عليه، وبعد سقوط كلّ المحاولات والدعوات إلى عقد جلسات نيابية متتالية لانتخاب رئيس ما دام التوافق غير متوافر، جاء كلام البطريرك تأكيداً وتمسّكاً باتفاق الطائف ودعوةً إلى تطبيقه لأنّ بكركي تعتبر أنّ كلّ أزمة يعيشها لبنان في كلّ استحقاق هي نتيجة استخدام جماعات طائفية سلاح تعطيل النظام لفرض أجندة مصالحها السياسية، فيما لا تستخدمه لتطبيق إصلاحاته وسير العمل الدستوري.
ظهرت إرهاصات التعطيل، الذي بدأ عملياً منذ 18 عاماً، في محطّات عدّة، أبرزها الثلث المعطّل في الحكومة منذ اتفاق الدوحة عام 2008، وتعطيل عمل حكومات عدّة، وإقفال المجلس النيابي عامين ونصف عام لفرض انتخاب ميشال عون رئيساً، ثمّ عدم إقرار الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي في السنوات الأخيرة، وتجاهل علاقات لبنان بالدول العربية عبر تهجّم قوى داخلية على دول خليجية. وفي حين أنّ قرار الحرب والسلم لم يعد بيد الدولة منذ زمن بعيد، تظلّ الاستراتيجية الدفاعية بعيدة عن النقاش الجدّي.
في المقابل، يرى المسيحيون أنّ “فائض القوّة” في الداخل هو محاولة لإلغاء وجودهم السياسي بالكامل، وتحويلهم إلى مجرّد مشاركين في أيّ صيغة سياسية، غير فاعلين ولا صنّاع قرار، وخصوصاً القرار المسيحي.
جاء عنوان كلام البطريرك في ندوة “دولة مدنية لامركزية حيادية”، تماماً كما ينصّ الطائف، الذي يتمسّك به ثلاثي الفاتيكان والولايات المتحدة والسعودية. والحيادية فكرة وُلدت بعدما أُدخِلَ لبنان، عبر الحزب، في صراعات المنطقة منذ عام 2005 حتى يومنا هذا. وبالتالي جاء الكلام ردّاً على كلّ نزعات “التقسيم” المسيحية الصادرة عن الداعين إلى الفدرالية، وردّاً على محاولات فرض الثنائي الشيعي رئيساً لا يعكس رغبة القوى المسيحية الأساسية في البلاد.
اللامركزيّة الإداريّة والماليّة
في عهد الرئيس ميشال سليمان طرح الوزير السابق زياد بارود مع لجنة متخصّصة اقتراح “اللامركزية الإدارية” في قانون تضمّن تفاصيل تطبيق هذه اللامركزية المنصوص عليها في اتفاق الطائف.
بقي هذا القانون عنوان تجاذب حتى أعاده الرئيس ميشال عون في عهده إلى الطاولة عبر دعوته إلى تطبيق اللامركزية مدخلاً إلى تطبيق الطائف. وفي معلومات “أساس” أنّ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل يُعِدّ حالياً اقتراح قانون “لامركزية إدارية وماليّة” يلحظ فيه كلّ التفاصيل “الماليّة” التي تعطي كلّ منطقة “حقّها” بناء على جبايتها الضرائب والرسوم.
في المعلومات الجديّة غير المؤكدة أيضاً أنّ باسيل بعث رسالة إلى الحزب عرض خلالها إقرار قانون اللامركزية الإدارية والمالية وإقرار قانون إدارة أصول الدولة، مقابل موافقته على انتخاب سليمان فرنجية رئيساً. غير أنّ ذلك ليس وارداً لأنّ الحزب أوّلاً يرفض اشتراط باسيل مقابِلاً لانتخاب خياره الرئاسي، وثانياً يعارض قانون اللامركزية الإدارية والماليّة.
لذلك النقاش في طرح تطبيق الطائف من بوّابة اللامركزية سيصطدم بانقسام مسيحي مسلم حول مفهوم اللامركزية وكيفية تطبيقها في الشقّ المالي. حتى ذلك الحين، هناك مسار على أحد أن يقوده لتحويل “تطبيق الطائف إلى قضية وطنية ملحّة لإنقاذ ما بقي من هويّة لبنان”.
على خطى مار نصرالله بطرس صفير؟
في عام 2000 وبعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان وبقاعه الغربي، قال البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير جملته الشهيرة يومها: “بعد انسحاب إسرائيل، حان الوقت لانسحاب الجيش السوري من لبنان”. بعدها حمل صفير عصاه وجال عواصم العالم المؤثّرة لتحقيق الانسحاب.
بين عامَيْ 2000 و2005 نجح صفير في جعل هذا الأمر قضية بكركي الأساسية، لا عنواناً في صراع سياسي تقليدي. أسّس لقاء قرنة شهوان، وكانت بكركي محور العمل السياسي ضدّ الوجود السوري حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي شكّل الحدث الأكبر، وعبّد الطريق لخروج سوريا من لبنان.
يطرح البطريرك الراعي اليوم الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي حول لبنان، إلا أنّ هذه الدعوة تبدو موسمية. فكلّ مرّة كانت تعجز الطبقة السياسية عن إنجاز الاستحقاقات المتتالية، كتشكيل حكومة أو انتخاب رئيس، كان الراعي يدعو إلى مؤتمر دولي. واليوم لا مؤشّرات دولية إلى الاستجابة للدعوة الأخيرة.
هكذا تبقى هذه الدعوات صرخة في البرّية ما لم تقترن بخطة تجعلها قضية وطنية ودولية. فإذا أراد البطريرك الدفع باتجاه تطبيق الطائف، وهو صادق في إرادته هذه، فعليه أن يحوّله إلى قضية ملحّة ويدقّ ناقوس الخطر في العواصم المعنيّة، تحت العنوان نفسه الذي يردّده في عظاته وفي مجالسه: “طبّقوا الدستور.. لبنان دولة مدنية لامركزية حيادية، وإلّا فإنّ لبنان يفقد الهويّة والسيادة”.
هل يحمل الراعي عصاه ويحوّل قضية التمسّك بالنظام قضيةً وطنيةً على أن ينسحب ذلك على رئيس ماروني لكلّ اللبنانيين؟
على الرغم من عدم وجود مؤشّرات إلى حصول ذلك، إلا أنّ بكركي تتلقّى دعوات لتحويل عناوينها إلى خطوات عملية لتكون شريكة فعليّة في العودة إلى تطبيق الطائف انطلاقاً أوّلاً من اللامركزية الإدارية التي يعتبرها المسيحيون ضمانة لهم، ويطالبون أن تكون مقرونة باللامركزية الماليّة، وثانياً من تحويل مجلس النواب إلى مجلس غير طائفي بعد إنشاء مجلس الشيوخ.
غير ذلك، لن تصل إلى مبتغاها أيُّ دعوة تقليدية إلى الحوار أو عقد مؤتمر دولي حول لبنان. فبكركي تدرك أنّ لبنان أصبح في وضع يائس، وخلاصه يستوجب تدخّلاً جدّياً منها ومن القوى الدولية التي رعت “الطائف” في عام 1990، لتكريس الدستور وتطبيق الطائف وإصلاحاته وحماية الهويّة والنسيج اللبناني.
يعود الموفد الفرنسي جان إيف لودريان بعد منتصف تموز ومعه مقاربة الحلّ الرئاسي. فإمّا أن يجتمع اللبنانيون على اسم الرئيس – التسوية على أن يقودوا مسار الطائف في العهد الجديد، وإمّا الفراغ والفوضى. وفي غالب الظنّ أنّ الخيار الأوّل هو المرجَّح، أو المُتمَنّى على أقلّ تقدير.
جوزفين ديب- اساس