الهجرة “التمريضيّة” الداخليّة من مُستشفيات الضواحي إلى مُستشفيات العاصمة وصلت إلى ذروتها
شيئا فشيئاً، يخسر لبنان نخبته وهو يتأرجح تحت ثقل اقتصاده المتهاوي، وعمليا هذا ما دفع الى افراغ وإخراج البلاد من مهاراتها في كل القطاعات الحيوية والاساسية، التي كان للبنان ميزات تنافسية ينفرد بها عن غيره من البلدان العربية والأوروبية.
فالبطالة واقفال أكثر من 80 في المئة من المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة، وتبخّر الأجور وانعدام القيمة الشرائية لليرة، كلها عوامل رفعت درجات الإحباط ووسعت دائرة اليأس لدى الشباب بالمستقبل، الامر الذي دفع بالأدمغة للهجرة بحثا عن الاستقرار المادي والوظيفي، وطمأنينة باتت غير متوافرة في لبنان اقلّه في ظل هذه الظروف الراهنة على المواطنين الأصليين.
واقع مظلم!
ان مشكلة رحيل الادمغة تطرقت اليها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، حيث اعتبرت «ان المهنيين الذين يقدمون الخدمات الرئيسية مثل: الأطباء، الممرضات والمهندسين، الى جانب العاملين في المجال الأكاديمي هم اول من سيترك لبنان».
على خطٍ موازٍ، أشار تقييم للبنك الدولي اجري بشهر كانون الأول من العام 2020، «ان هجرة الادمغة أضحت خيارا يائسا بشكل مضاعف في لبنان، اذ تصنف أزمته الاقتصادية من بين أكبر ثلاث أزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر». لافتاً الى «ان التدهور القاسي في الخدمات الأساسية سيؤدي الى تداعيات بعيدة الأمد، بما في ذلك الهجرة الجماعية، وسيكون من الصعب للغاية ترميم الضرر الدائم الذي يلحق برأس المال البشري. ولعل هذا البعد من المشكلة اللبنانية يجعل حلقته مميزة من نوعها مقارنة بأزمات عالمية أخرى».
النزوح
وبعد ان أصبح أكثر من نصف سكان لبنان راهنا يعيشون في فقر مدقع، فان مغادرة من استطاع من هؤلاء البلاد يعتبر الحل الأفضل الأسوأ من بين الحلول المتوافرة. ولكن النزيف في القطاع التمريضي على وجه التحديد بدأ منذ العام 2019. وفي هذا الإطار، عرضت مجلة «فورين بوليسي» ارقامها المخيفة عن هجرة الادمغة، لافتة الى ان 20 في المئة من الأطباء غادروا، وذلك يترافق مع اغلاق مئات الصيدليات أبوابها، ومواصلة النزوح الجماعي المستمر لموظفي الرعاية الصحية من ممرضين وممرضات».
بالمقابل، كانت أكدت نقيبة الممرضين والممرضات د. ريما ساسين قازان في حديث تلفزيوني، «ان أكثر من 3300 ممرض وممرضة من أصل 10000 مزاولين للمهنة، قد هاجروا منذ ازمة 2019 حتى اليوم»، مشيرة الى «ان العدد ربما يكون أكبر من ذلك لان الأرقام المراقبة تستند فقط الى من طلب أوراق من النقابة».
اقفال اقسام من المستشفيات أدى الى البطالة
في سياق متصل، قال الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ «الديار» ان «لا إحصاءات تتعلق بهجرة العاملين في المجال التمريضي لسبب بسيط، ان الممرض او الممرضة كما الطبيب إذا أرادوا الهجرة، فان الذريعة لا تكون معلنة او معلومة من قبل هؤلاء سواء في المطار لدى مغادرتهم، او أثناء تركهم للعمل». وقال: «لا نملك معلومات دقيقة في هذا المجال، وتقديراتنا ان الأعداد تتراوح ما بين الـ 2500 الى 3000 ممرض وممرضة».
أضاف «جزء من هؤلاء هاجر، وآخر عاطل عن العمل بسبب اغلاق المستشفيات اقساماً عديدة، وعدم الحاجة الى الفائض من العاملين في قطاع الرعاية الصحية». لافتاً الى «ان المستشفيات باتت تعمل بـ 70 في المئة من طاقتها، والـ 30 في المئة موزعون ما بين عاطل او معتكف عن العمل، بسبب تدني الراتب او التفتيش عن وظيفة خارج البلاد، وهذا ما فرض حاجة اقل للممرضات والممرضين ، لان التكلفة المرتفعة للاستشفاء جعلت الناس لا يرتدونها الا للضرورة القصوى او لمن يملك الفرش دولار. ومسألة اقفال اجنحة كاملة في المستشفيات ابعد من الرواتب وتدنيها او كونها بالعملة الوطنية فقط».
وختم شمس الدين، «هذه العوامل مجتمعة دفعت العاملين في هذا المجال للهجرة بهدف الحصول على عمل وليس لان الراتب جيد أو أفضل حالا عمّا كان يتقاضاه الممرض/ة في لبنان».
هجرة داخلية!
بالتوازي، رأت عضو مجلس نقابة الممرضات والممرضين ليندا صفير «ان القطاع الاستشفائي يعاني من هجرة واسعة للطاقم التمريضي وتحديدا الى أوروبا، بلجيكا وفرنسا ودول الخليج العربي». وقالت لـ «الديار» ان «هذا النزوح تفاقم مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتسبب بنقص حاد في المستشفيات، والبعض يسعى الى إيجاد حلول من خلال اقفال اقسام تمريضية او تقليص استقبال عدد المرضى بسبب النقص بالعاملين، او اللجوء للاستعانة بمتخرجين جدد لتعويض الخسارة».
اضافت «هذه الحالة أحدثت هجرة داخلية، لان المستشفيات المهمة تقدم عروضا أفضل من تلك المتواجدة في الأطراف والضواحي، وهذا ما دفع الطاقم التمريضي الى النزوح نحو مستشفيات بيروت، التي تعاني من النقص في الكوادر ،كما ان الرواتب والأجور مُرضية بشكل أكبر».
وأشارت «الى ان عمليات المغادرة قائمة داخل بيروت نفسها أيضا، بسبب العرض المقدم من بعض المستشفيات المتمكنة مادياً، وهو ما وضع بعض المستشفيات بموقف مأزوم بسبب فقدانها عناصر بشرية ذات خبرات وكفاءات ومهارات في المهنة على مستوى عالٍ، واستبدالهم بآخرين لا يملكون الحد الأدنى من الالمام الوظيفي بمقتضيات العمل».
وألمحت صفير الى «ان الحل يكون بتحسين الرواتب وظروف العمل»، وكانت صفير اشارت الى اقتراح تم عرضه على وزير الصحة ينطلق من دراستين من منظمة الصحة العالمية: الاقتراح الأول يطالب براتب للممرضين يبدأ من 800 دولار وقد تم رفضه، والاقتراح الثاني يقضي بتحويل الراتب الذي كانت تعطيه كل مستشفى عام 2019 على دولار 1509، على ان يكون نصفه بالفرش والقسم الآخر بالليرة.
الديار