حبيب صادق… رحل بعد عقود من الكفاح الثقافي والانساني ومواجهة الفكر الظلامي

كانت رحلة الكاتب والشاعر والسياسي اللبناني حبيب صادق طويلة ومديدة ومرهقة ومنتجة بغزارة حتى موعد رحيله قبل أيام. ناهزت هذه الرحلة القرن تقريبا واستوعبت أشكالا كثيرة من العمل الثقافي والسياسي التي دارت بأجمعها، في أطر تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الاسرائيلي أولا، ثم العمل على بلورة وعي ثقافي جنوبي مندمج في لبنانيته، ومساهم في التنوع اللبناني الذي يمكن أن يكون “نعمة” للبنان بدل أن يكون “نقمة” كما كان حاله دوما.

في مثل هذا النوع من المسيرة المديدة والمتناسلة والتي لا يوقفها سدّ ولا يمنعها مانع، يدمج الشخص مثل حبيب صادق شخصيته الأدبية بالشخصية السياسية وبالشخصية الخاصة والأخرى العامة، وهو خلط الجهات كلها في جهة واحدة. ولم يتوقف عن ترديد مقولته الشهيرة “كل الجهات الجنوب” التي تحوّلت إلى شعار عربي متداول، بعدما رفعها، حين امتد الاحتلال الاسرائيلي نحو مدينتي طفولته، الأولى هي الخيام الشهيرة بمعتقلها الاسرائيلي الذي أمضى فيه مقاومون لبنانيون سنوات من العذاب وعلى رأسهم سهى بشارة، وكان شاهدا على عنجهية هذا العدو ولاإنسانيته، والثانية مدينته النبطية التي تعرضت للاجتياح مرات منذ منتصف القرن العشرين. ومنذ تأسيسه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي اخذ على عاتقه الكشف عن الخطر الإسرائيلي على الجنوب اللبناني فأصدر كتابا في العام 1968 يحمل عنوان “خطر إسرائيل على جنوب لبنان”. وكرت بعد الاحتلال سبحة الامسيات الشعرية والمعارض التشكيلية والحفلات الغنائية وتوجت بمعرض “كل الاتجاهات جنوبا” الذي بات معرضا سنويا يشارك فيه فنانون وتشكيليون من أنحاء العالم العربي.

اختلاط الشخصي بالعام والسياسة بالأدب

حبيب صادق كان من الأدباء والمثقفين المفطورين على الكفاح من أجل قضية معينة والذين يرفعون الحدود بين حياة المرء الخاصة وحياته العامة، فلم يتزوج ولم ينجب، وكأن زواجه من قضاياه أنتج له نسلا أبقى من نسل الأبناء الماديين، بل نسلا من المثقفين الذين انطلقوا من منابر المجلس الثقافي للبنان الجنوبي إلى كل المنابر الثقافية في لبنان والعالم العربي والعالم، ومنهم كثر ارتقوا إلى العالمية وقد ذكروا فضل حبيب صادق والمجلس الثقافي عليهم ومنهم شعراء كأدونيس وعباس بيضون ومحمد علي شمس الدين وروائيون كإلياس خوري وحسن داوود ورسامون ونحاتون ومغنون للأغنية الملتزمة ومنهم مارسيل خليفة الذي لحن له ولأميمة الخليل، عدة أغنيات كتبها صادق، وكذلك أحمد قعبور وخالد الهبر وسامي حواط وزياد الأحمدية وسمية بعلبكي وريما خشيش وهبة قواص وغيرهم.

حبيب صادق والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي والجنوب والجنوبيون وقضاياهم كلها، مواضيع وأمور متفرقة ولكنها متشابكة في واحد أو متقاطعة فيه، وهو حبيب صادق الذي رحل قبل أيام . وحبيب صادق مثال واضح عن قدرة رجل واحد على التأثير في مجتمع بأكمله وعلى صعد مختلفة ، ثقافة في إطار السياسة، وسياسة في إطار الفنون وفنون في إطار السياسة… وهكذا على شكل سلسلة مترابطة لا يفكك عقدها إلا الأطراف التي يواجهها هذا “الدينمو” المحرّك، والتي بدأت بالانتداب الفرنسي مع جده ووالده شيخي النبطية وقاضييها ومفتييها، خلال المرحلتين العثمانية والفرنسية.

انتقل الشاب اليافع ربيب عائلة المشايخ الأدباء والشعراء في ريعان شبابه إلى محاربة الاقطاع السياسي المؤلف من ملاكي الأرض القدماء، ومواجهة هذا النوع من مالكي الأرض أدخلته في شكل من الكفاح اليومي الواقعي وأدخلته السجن مرات عديدة وحرمته التقدم الوظيفي. وكان من نتاجات هذا دمج السياسي بالثقافي، فحوّل شتلة التبغ إلى “طوطم” جنوبي بل “جبل عاملي” والى رمز للصمود والبقاء في الأرض والعيش ولو من شظف الحياة نفسها.

لم يكن بإمكان أي من رفاق حبيب صاق التفريق ما بين منزله والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، أو بين الشعر الغزلي المقفى والشعر الذي نظمه على منوال ما نظم الشعراء الجنوبيون باللهجة العامية ذات الوقع الموسيقى الجرسي، أو الذي كتبه بلغة متقنة ومتينة كشعر شعراء محيطه العائلي من مشايخ آل صادق المعروفين بآدابهم وشعرهم وعقيدتهم الدينية والإيمانية المنفتحة.

محمد دكروب شهادة رفيق درب

محمد دكروب الشاعر والمثقف والباحث كتب عن رفيق دربه ووصفه بما قلّ وأصاب أدبيا، فيقول أن نثر حبيب صادق وشعره متوائمان لأن نثره الفني، أقرب في صياغته وإيقاعه وأجوائه، إلى الكتابة الشعرية، كما كان الحال في مجموعتيه “فصول لم تتم” (1969) و”زمن القهر والغضب” ،197 ،وفي النثر الفني المرسل في كتبه “جنوباً ترحل الكلمات ، 1980 و”شهادات على حاشية الجنوب”1981 … وتبرز أنواع أخرى من الكتابة النثرية في “مطالع النور”1982 و”كلمات للوطن والحرية” 1986.

أعتمد هنا قراءة المفكر محمد دكروب لظاهرة حبيب صادق فهو أصدق من يكتب عن رحلة صداقة، عايشها، يقول دكروب : “بالإمكان الحديث عن حبيب صادق الشاعر والناثر الفني، وحبيب صادق الناشط والمنشط الثقافي، وحبيب صادق الإنسان، والصديق الذي ينبض وداً. وحبيب صادق التقدمي، في أساس هذا كله. وبالإمكان أيضاً الحديث عن حبيب صادق الباحث والدارس، المنقّب والصابر على التقميش والفرز والترتيب والتنسيق والتبويب وتقسيم الموضوع، تالياً، إلى فقرات وفصول يحكمها منطق التسلسل والتنامي، فالوصول إلى الاستنتاجات”.

ويكمل دركوب: “قد لا يعرف القارئ، كما أتيح لي أن أعرف وأرى وألمس، مدى معاناة حبيب صادق وعذاباته ـعذاباته، فعلاًـ وهو يشتغل ويكدح في إنجاز بحثه أو دراسته، لأن قارئ هذه الأبحاث سيجد نفسه مأخوذاً إلى المادة المعرفية والثقافية الغنية والمصوغة بما ييسر للقارئ تلقّي المادة المتنوعة، كما في الكتابة عن مسيرة حسين مروة، ومسيرة رئيف خوري الفلسطينية العربية، ومسيرة فؤاد جرداق العالمية اللبنانية التقدمية، وكما في الكشف عن ذلك الارتباط العضوي بين أرض فلسطين وقضيتها وبين الشعر اللبناني الطالع، على الأخص، من جنوب لبنان”.

أكثر هذه الأبحاث التي قام بها حبيب صادق والتي يتحدث عنها دكروب أنتجها تحت ضغط مناسبة معينة أو نشاط ثقافي فكري معين ندوة مثلاً، أو حلقة دراسية في موضوع محدد، أو إحياء لذكرى واحد من رجال الثقافة. وهي تندرج في إطار التنشيط الثقافي الذي نذر له حبيب صادق القسم الأكبر من وقته وجهده وكدح العقل وعرق الجبين. على الأخص ذلك النشاط الذي يقوده المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي أدى فيه حبيب دور المحرك، إلى درجة الاندفاع الصوفي. والتنشيط الثقافي لون من ألوان الإبداع الخاص. إبداع يستثير الإبداع. وتنشيط يفضي إلى إنتاج معرفة، وإسهام متميز في صنع الحدث الثقافي والفكري. ومن مجمل ما يقصده دكروب لمنح حبيب صادق صفة الباحث الثقة والشغوف بجمع المعرفة بين دفات الكتب، كتبه البحثية مثل “قضايا ومواقف 1990″ و”وجوه مضيئة في الفكر والأدب والسياسة والاجتماع 2004″، و”صراع المصالح والإرادات في معركة الانتخابات النيابية 2005 ” وكتابه الذي يلخص تجربته في العمل السياسي بعد انتخابه نائبا في البرلمان اللبناني في العام 2005، ومن ثم تأسيسه للحركة الشعبية الديموقراطية بهدف جمع اليساريين اللبنانيين والعلمانيين في إطار جامع. ومن ثم تأسيس “المنبر الديموقراطي” كحركة سياسية معارضة.

المجلس الثقافي للبنان الجنوبي

ارتبط المجلس الثقافي للبنان الجنوبي عضويا بأمينه العام حبيب صادق منذ العام 1975 حين تبوأ فيه منصب الأمين العام ، فنقل المجلس من جنوبيته الخالصة إلى لبنانيته، وأقام شراكات مع مؤسسات ثقافية لبنانية. ثم نقل نشاطات المجلس إلى بعض العواصم العربية. وكانت تلك فترة مناسبة لصعود المغنين الملتزمين كمارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر الذين أنشدوا قصائد “شعراء الجنوب”، وهؤلاء احتضنهم المجلس وأمينه العام جميعا، وأطلقهم في سماء العالم العربي سفراء قضية جنوب لبنان المحتل.

تأسس المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في العام 1964، أي قبل خمسين عاما كانت مشحونة بالعمل الثقافي-السياسي. فمنذ تأسيس هذا الصرح الثقافي اللبناني والعربي والظروف العصيبة، لا تنفّك تتشابك قضايا الثقافة العربية والجهود الرامية إلى القيامة بمجتمعاتها. فسرعان ما حلّت النكسة ثم الإجتياحات الإسرائيلية المتتالية لجنوب لبنان، ثم الحروب اللبنانية المتناسلة والمتطاولة بين الأحزاب والميليشيات، والتي طاولت المجلس مباشرة في مقرّه في جنوب لبنان قبل أن يضطر إلى الإنتقال إلى منطقة رأس النبع في بيروت حيث تم السطو عليه من قبل الميليشيات، فنهبت كل محتوياته من المكتبة الى اللوحات الفنية والمنشورات والأرشيف، فانتقل المركز الى منطقة برج ابي حيدر حيث أحتل أيضا ولم يتم إسترجاعه الا وقد نهبت المخطوطات الأدبية التي تعنى بنتاج العلماء والأدباء من جنوب لبنان واللوحات الكثيرة التي كان يهديها الرسامون اللبنانيون والعرب للمجلس. لكن رغم ذلك لم يتوقف المجلس عن إكمال مهمته الثقافية المرتبطة بقضايا جنوب لبنان أولا ثم بالقضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين. ولم يقفل أبوابه يوما رغم الظروف العصيبة في الأزمان المظلمة وتحديدا في أواسط الثمانينيات حين صفّت القوى الظلامية عددا كبيرا من المثقفين والمفكرين الجنوبيين وعلى رأسهم حسين مروة ومهدي عامل وغيرهما كثر.

كان على المجلس أن يواجه ثقافيا الإقطاعين التقليدي والسياسي في جنوب لبنان، وأن يكون رافعة للثقافة الجنوبية التي برزت مع “شعراء الجنوب” في أواخر الستينات وأوائل السبيعنات. وهؤلاء الشعراء الخارجون من رحم البؤس الجنوبي احتضنهم المجلس وطبع أعمالهم وقدمهم الى الجمهور العريض لتظهير معاناة الجنوب والجنوبيين وجعلها معاناة تعني العرب جميعا، وليرافق نهضة ثقافية جنوبية كانت في العتمة سابقا، بسبب التهميش الذي لقيه الجنوب على كل الصعد من قبل السلطات اللبنانية المتعاقبة. والأمر نفسه ينطبق على مجموعة كبيرة من الرسامين والموسيقيين والمسرحيين الذين إندمجوا في إطار المجلس فبات يتشكّل منهم ويقوى بهم ويقوّيهم. وبسبب ترابط قضية إحتلال جنوب لبنان وإحتلال فلسطين وهما الجارين الأقربين، كانت القضية الفلسطينية في صلب إهتمامات المجلس، وكان المثقفون الفلسطينيون من الرواد الفاعلين في عمله ومن بينهم ناجي العلي وغسان كنفاني ومحمود درويش وغيرهم. وهذا الإهتمام الحقيقي والمؤثر للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي وأمينه العام حبيب صادق بالقضية الفلسطينية خوّلهما الحصول على جائزة الشرف من مؤسسة محمود دوريش في دورتها الخامسة لسنة 2014.

قد يكون المجلس الثقافي للبنان الجنوبي من المؤسسات الثقافية العربية القليلة التي استطاعت المضي بقوتها الذاتية من دون دعم ورعاية حكومية، كما جرت العادة في المؤسسات الثقافية العربية. وهو لذلك كان ذا تأثير واضح في رفع (وفي ودعم) الثقافة والمثقفين الخارجين من الأطر الثقافية الرسمية، ليؤسس للثقافة الموازية غير الخاضعة للتدخلات المالية السلطوية، ويبلّورها. وهذه كلها تصب في إطار تمجيد حرية التعبير في كل أشكال الفنون، وديمقراطية الثقافة ونبذ الإنقسامات الطائفية والمناطقية اللبنانية.

اندبندنت