هل الانهيار حصل صدفة… أم هناك من يريد إبقاء سياسات البلد كلها تحت سيطرته؟
يَتخيّل للبعض انّ الخلاف مع «حزب الله» ينحصر في السياسة الدفاعية، فيما الخلاف يشمل السياسة الخارجية والمالية واللامركزية، ولكن مع فارق انّ الملف الأول غير قابل للحل خلافاً للملفات الأخرى التي يمكن الوصول فيها إلى حلّ.
التركيز على السياسة الدفاعية مَرده إلى عامل السلاح المُسَبِّب الأساس للأزمة اللبنانية وتأثيره المباشر على الحياة السياسية في ظل الخلاف بين من يعتبر انّ الدفاع عن لبنان مَنوط بالدولة اللبنانية وحدها، وبين من يَبتكر الحجج حفاظاً على سلاحه غير الشرعي، ولكن هذا التركيز على السياسة الدفاعية أدى إلى إهمال السياسات الخارجية والمالية واللامركزية التي يمكن تعديل اتجاهها ومسارها خِلافاً للدفاعية.
فمن المُسلّم به انّ «حزب الله» ليس في وارد تسليم سلاحه، وبالتالي لا حاجة لهدر الوقت في استراتيجية دفاعية بين مُقاربتين مختلفتين جذرياً، بَل من الخطأ الدخول في نقاشات بشأنها يوظِّفها الحزب تحسيناً لصورته بأنه يُحاوِر بحثاً عن الحماية الأفضل للبنان، فيما يتخذ من الصراع مع إسرائيل ذريعة للاحتفاظ بسلاح وظيفته إقليمية لا لبنانية.
ولا أوهام بأنّ الحزب لن يستغني عن سلاحه وانّ نَزعه غير ممكن، ما يَستدعي استمرار المواجهة على هذا المستوى من دون حوارات عقيمة جُرِّبت بعنوان الاستراتيجية الدفاعية، إنما المطلوب نقل التركيز والاهتمام بعد انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة إلى السياسات التي يمكن التأثير والتغيير في مسارها واتجاهاتها وتنعكس إيجاباً على البلد.
ومن هنا أهمية إنتاج سلطة تنفيذية متجانسة برأسَيها والحكومة مجتمعة ولا تتأثّر بسياسات الأمر الواقع، وان تكون عازمة على تصويب العلاقة مع الخارج والشروع في الخطوات الإصلاحية وفتح الباب مع المجلس النيابي أمام ورشة اللامركزية الموسّعة التي تشكل رافعة للاقتصاد اللبناني وعامِل اطمئنان للجماعات اللبنانية، وتحدّ من الفساد المستشري وتوفِّر الخدمة الأفضل للمواطن اللبناني.
فما يستحيل تحقيقه على مستوى السياسة الدفاعية التي يجب ان تكون محصورة بالدولة وحدها، يمكن تحقيقه في السياسات الخارجية والمالية واللامركزية شرط وجود سلطة تنفيذية مصمِّمة على تَرييح الناس وإخراج البلد من أزمته وإعادة ترتيب علاقاته الخارجية، ومُتكئة بذلك على ثلاثة عوامل موضوعية:
في العامل المالي أولاً أصبح من الواضح بأنّ المجتمع الدولي يربط المساعدات بالإصلاحات، ولبنان بحاجة ماسة لمساعدات للخروج من الانهيار المالي غير المسبوق، ولا خيارات أمامه على هذا المستوى سوى إمّا الاستمرار وسط الانهيار او القيام بالإصلاحات المطلوبة، وسياسة السماح والتساهُل الدولية مع لبنان انتهَت إلى غير رجعة، فلا مساعدات من دون إصلاحات، فإمّا ان تكون الدولة اللبنانية على قدر المسؤولية وتعمل على وضع السياسات الإصلاحية المطلوبة وإمّا ان تتحمّل تَبِعات استمرار الانهيار، ولا أحد يستطيع ان يحلّ مكان اللبنانيين فهذه مسؤوليتهم وعليهم تَحمّلها، والتعويل على مساعدات الخارج المفتوحة من دون شروط انتهى ليس فقط بسبب انشغال دول العالم بأزماتها، بل لأنّ هذه الدول تعبت من المسؤولين الرسميين اللبنانيين ووصلت إلى قناعة بأنّ دور «الصليب الأحمر» و»كاريتاس» الذي كانت تقوم به جَعل هؤلاء المسؤولين اتّكائِيين على الخارج ومُنسحبين من دورهم الداخلي، إمّا لكونهم مستفيدين من الفوضى والفساد وإما تجنّباً لصدام يُفقدهم دورهم السلطوي.
ولأنه لا يمكن الخروج من الانهيار من دون ضوابط داخلية صارمة وتعاون واسع مع صندوق النقد والمؤسسات الدولية، فإنّ السلطة التنفيذية العتيدة ملزمة اعتماد سياسات مالية واضحة وهي ستحظى في حال اعتمادها هذا التوجه بدعم دولي وشعبي، وهذا الجانب من السهل انتزاعه متى وُجِد رجال دولة لا أولوية لهم سوى مصلحة لبنان واللبنانيين.
وفي العامل الخارجي ثانياً، مَعلوم انّ السياسة الخارجية على غرار السياسة الدفاعية كان قرارهما في دمشق إبّان فترة الوصاية السورية قبل انتقالهما إلى «حزب الله»، والتشدُّد في الجانب الخارجي مَردّه إلى خشية الحزب من سياسة لبنانية خارجية مستقلة تتناقض مع دوره العسكري، كما انه يتوجّس من دور الخارج الداعم لاستقلال لبنان وسيادته، وهذا ما أدى إلى تعطيل السياسة الخارجية حيناً او تحويلها إلى منبر من منابر الممانعة في الخارج وخرج لبنان معها عن حياديته ربطاً بتعدديته وانقلبَ على سياسته بأن يكون على أفضل العلاقات مع الدول التي تحترم سيادته واستقلاله، ما أدخَلَه في عزلة وعقوبات، ولكن مع السلطة التنفيذية الجديدة التي ستنبثق عن الانتخابات الرئاسية يجب التشدُّد في السياسة الخارجية من خلال رفض تعكير صفو علاقات لبنان الخارجية، والتصدّي لأي محاولة من هذا النوع، وبإمكان السلطة العتيدة الاستفادة من عنصر أساسي وهو الاتفاق السعودي – الإيراني الذي عَطّل دور «حزب الله» الخارجي أو جَمّده حتى إشعار آخر، فلم يعد باستطاعة الحزب مهاجمة السعودية مثلاً في ظل علاقاتها الجيدة مع إيران، وأيّ هجوم سيكون رسالة إيرانية من بريد الحزب الذي يعكس التوجّه الإيراني.
ومن هنا أهمية ميزان القوى على مستوى السلطة التنفيذية التي لا يجب ان تكون خاضعة لتأثير سياسة الأمر الواقع، إنما تتولى ترجمة ما يخدم المصلحة العليا للبنان والشعب اللبناني، وهذا ما يجعل الانتخابات الرئاسية مهمة للغاية كمدخل لسلطة مُستقلة تعيد الاعتبار لسياسة لبنان في الملفّين الداخلي والخارجي.
وفي العامل اللامركزي ثالثاً لم يعد مسموحاً ولا مبرراً النأي بالنفس عن بندٍ ليس فقط منصوص عليه في اتفاق الطائف، إنما شكّل محورا أساسيا من النقاشات التي حصلت في الطائف لجهة التوازن بين مركزية السلطة التي تحقِّق التوازن والمساواة داخل الحكومة، ولامركزية السلطات داخل الأقضية والأقاليم كانعكاس لتعددية المجتمع وتحقيقاً للإنماء الذي يستحيل تحقيقه سوى من الباب اللامركزي، فضلاً عن انّ تجربة 33 عاماً منذ انتهاء الحرب اللبنانية أثبتت انّ هناك من يضع يده على السلطة المركزية بكل مفاصلها وحَوّلها إلى سلطة فاشلة، ويستحيل في المدى المنظور الوصول إلى سلطة مركزية شفافة وإصلاحية، ولا خيار إلا في سلطات لا مركزية توفِّر الخدمات المطلوبة للناس وفرَص العمل وتُعيد إنعاش الأقاليم وتقدِّم التطمينات للجماعات في ظل خلفية واضحة ترمي إلى إبقاء مركزية القرار لإبقاء البلد كله تحت سيطرة فريق لا يلتزم بالدستور ودفع الناس نحو الهجرة.
فمن أولويات السلطة الجديدة ان تضع ومجلس النواب الملف اللامركزي على طاولة التطبيق، فلم يعد من مبرِّر إطلاقاً لعدم استحداث مطارات لبنانية جديدة، وهذا القرار ملك مجلس الوزراء ووزير الأشغال تحديداً، كما إنشاء مرافئ وإقرار اللامركزية الموسعة في مجلس النواب فتكون أول خطوة كبرى يدشِّن رئيس الجمهورية من خلالها عهده، وقد تحولت اللامركزية إلى مطلب شعبي كبير، خصوصاً على أثر الانهيار الكبير.
فإذا كان متعذراً نزع سلاح «حزب الله»، فمن غير المتعذِّر بتاتاً إقرار سياسة مالية وإصلاحية تؤدي إلى الحدّ من الفساد وضبط الهدر والتهريب وترشيد القطاع العام ومعالجة القطاعات الحيوية بدءاً من الكهرباء، ومن غير المتعذِّر أيضاً ان تُعيد السياسة الخارجية جسور العلاقة مع الشرق والغرب والتصدي لكل ما يمكن أن يُسيء إلى دور لبنان الخارجي، ومن غير المتعذِّر أيضاً وأيضاً إقرار اللامركزية الموسّعة التي تشكل مدخلاً لإعادة التوازن وتثبيت الناس في أرضها ومَدّها بالأوكسيجين.
ويتوقّف تحقيق ثلاثية السياسة المالية – الإصلاحية والخارجية واللامركزية على إنتاج سلطة تنفيذية غير خاضعة لسلطة الأمر الواقع، ولا أولوية لها سوى مصلحة لبنان واللبنانيين، ومن هنا أهمية المواجهة الرئاسية بين مَن يريد إبقاء القديم على قدمه، وبين من يريد الذهاب قُدماً باتجاه تثبيت أقدام الدولة وركائزها، وإذا كانت حجة الفريق الممانع لعدم تسليم سلاحه الخلاف حول مفهوم المقاومة، فما حجّته لمنع إرساء سياسة داخلية إصلاحية وخارجية حيادية ولامركزية موسعة؟ وهل لمجرّد المصادفة ان السياسات الداخلية والخارجية مصادرة شأنها شأن السياسة الدفاعية؟ وهل الانهيار حصل صدفة، واستطراداً على عدم القدرة على الخروج من الخيار مجرد صدفة أيضاً، أم انّ هناك من يريد إبقاء سياسات البلد كلها تحت سيطرته؟
شارل جبور- الجمهورية