احتجاجات فرنسا: معضلة الأحياء المنسية وشباب الضواحي “القنبلة الموقوتة”!
يجتاز الرئيس إيمانويل ماكرون في هذه الأثناء الاختبار الثالث مع اضطرابات العنف المدني ومخاطر حصول “انتفاضة الضواحي الثانية”، وذلك بعد مواجهته احتجاجات السترات الصفراء والاحتجاجات حول أنظمة التقاعد.
وهذه المرة يجد ماكرون نفسه أمام تحدي الحفاظ على هيبة الدولة واحترام النظام العام من جهة، وضرورة الحفاظ على التماسك المجتمعي ومستقبل الشباب المهمش من جهة أخرى. ومما لا شك فيه أن الوضع مفتوح على كل الاحتمالات، وستضع التداعيات المنتظرة البلاد على المحك، وستنعكس على المشهد السياسي المتنازع عليه بقوة بين اقصى اليمين وأقصى اليسار.
كانت فرنسا تستعد لبدء العطلة الصيفية مع تسجيل أرقام اقتصادية جيدة بعد انخفاض معدل التضخم، وكان ماكرون قد تجاوز معضلة تمرير إصلاح نظام التقاعد، فإذا بحادثة نانتير غرب باريس تقلب الأمور رأساً على عقب، إثر مقتل الفتى نائل المرزوقي برصاص شرطي .
وإذا كانت رواية الشرطة تركز على رفض الضحية الامتثال لأوامر تدقيق مروري، انتشر شريط مصور يبين تصويب شرطي مسدسه ضد شخص في حالة توقف داخل سيارته، وسرعان ما اندلعت في فرنسا حركات احتجاج وأعمال عنف في عدد من ضواحي العاصمة باريس وعدة مدن أخرى في موجة غضب عارمة.
التشابه بين مصرعي نائل المرزوقي و جورج فلويد
بعيداً عن السياق العرقي الأميركي الذي له خصوصيته، يذكرنا مصرع نائل المرزوقي بمقتل جورج فلويد، وهو أميركي من أصل أفريقي ،تسبب باختناقه ضابط شرطة أبيض من مينيابوليس في مايو/آيار 2020. وهذا الفعل الذي ارتكبه أحد ممثلي إنفاذ القانون، تم تصويره وبثه تقريبًا بشكل مباشر، وحينها جرى التركيز على التمييز العنصري وأعاد ذلك إطلاق حركة “حياة السود مهمة”.
الوضع الفرنسي ليس له نفس الخصائص، لكن لا يمكن تجاهل طلب منظمة الأمم المتحدة من باريس “معالجة مشاكل العنصرية والتمييز العنصري في صفوف قوات الأمن”، وهذا يتطلب مراجعة متأنية لتكوين رجال الشرطة والسياسات المقررة في الدفاع عن النفس.
استناداً إلى سابقة انتفاضة الضواحي في عام 2005، والتي استمرت واحد وعشرين يومًا متتاليًا من العنف المدني والشغب، وأدت إلى مقتل ثلاثة أشخاص، اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن ما حدث مع نائل “لا يمكن تفسيره” و “لا يغتفر”
متخذاً بذلك المسار المعاكس تمامًا لما فعله وزير الداخلية حينذاك نيكولا ساركوزي عندما توفي مراهقان من أصول أفريقية صعقاً بالكهرباء بسبب ملاحقة الشرطة لهما وعدم إدانة ذلك.
بيد أن تصريحات الرئيس وفريق عمله لم تخمد العنف المحتدم، وفي هذه الحالة يصعب على الدولة عدم التعامل بحزم مع مجموعات تستغل معاناة الأحياء الشعبية وتستفيد من الفوضى للقيام بأعمال نهب وتخريب وتعتمد خطاباً مليئاً بالكراهية.
الضواحي “قنبلة موقوتة”
ومع تفاقم أعمال العنف في الأيام الماضية والاشتباكات مع رجال الشرطة، والمبارزات السياسية والاعتراضات من قبل شخصيات رياضية وثقافية إزاء الوضع القائم، تزداد الخشية من تواجد كل المكونات المؤهلة لتفجير قنبلة اجتماعية موقوتة في ضواحي باريس.
يمكن أن يعد ذلك إغراقاً في التشاؤم لكن الوضع دقيق في مجتمع تعددي، ثقافياً وعرقياً ودينياً، إذا تم اللعب على وتر الانقسامات والمزايدات السياسية حيال هذا الحدث وأمثاله.
بينما أدان جان لوك ميلنشون زعيم اليسار الراديكالي أداء الشرطة وحذرت رئيسة حزب الخضر من تصرف على الطريقة الأميركية لرجال الأمن، أعلنت زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبن عن دعم غير محدود للشرطة.
ووصل الأمر برئيس حزب الجمهوريين اليميني إيريك سيوتي للقول: “إنها العصابات المسلحة التي تقوم بالنهب وحرق المباني العامة وكذلك المنازل وقتل ضباط الشرطة. ولا شيء يمكن أن يبرر اندلاع العنف”.
وصل الأمر أيضا بالبعض للكلام عن إرهاصات “حرب أهلية”. لكن إمكانيات مقاومة المجتمع والدولة لن تسمحان لهكذا سيناريو مهما كانت درجة الخلل في المشهد السياسي والعطل الذي أصاب عملية التكامل والمساواة الاجتماعية.
ومن 2005 الى العام الجاري، يتضح جلياً الفشل في معالجة أوضاع الأحياء الشعبية والمهمشة، مما يكشف عن فشل نموذج الاندماج لمواطنين من أصول أجنبية، أو عن اعتبار الجيل الفرنسي الجديد الناشئ في هذه الأماكن بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
لا يمكن التقليل من التوترات الحاصلة بسبب العدوانية المتصاعدة بين الشرطة وبعض السكان، وليس مقبولا تبرير أعمال العنف. لكن المأساة التي حصلت تتطلب تحقيقاً مع خلاصات واضحة وكذلك القيام بإصلاح إجراءات استخدام السلاح.
إن المصالحة بين المجتمع المهمش والدولة، وعدم الاستغلال السياسي والمزايدة لمصالح انتخابية، وإصلاح نموذج الاندماج وتعزيز مفاهيم المواطنة والمساواة، ورفض التمييز وإعادة النظر بأوضاع الضواحي، تمثل شروطا ضرورية لتفادي الأسوأ واحتواء موجات العنف المدني.
خطار ابو دياب