“عدوى الانتحار” تتفشّى في لبنان: “ضحايا الأزمة”… “نحن لسنا بخير”!

بات الانتحار خبراً عادياً يُرافق يوميات الشعب “المنكوب” اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ونفسياً أيضاً. إذْ حصدت سنة 2023 وحدها حتّى اليوم أكثر من 66 ضحيّة، مقارنةً بـ40 حالة في الفترة نفسها من العام الماضيّ، مسجلةً ارتفاع بنسبة 65% وهو الرقم الأعلى منذ عام 2012، وفقاً لدراسة أعدتها “الدوليّة للمعلومات”.

صحيح أن هذه الأرقام تبقى “ضبابيّة” وفقاً لتقدير الاختصاصين، الاّ أنّها “الداتا” الوحيدة المصرّح عنها من قبل قوى الأمن الداخليّ بناءً على الشكاوى والمحاضر الواردة لديهم، فيما الحصيلة الحقيقيّة قد تكون أعلى من ذلك بكثير، ممّا يستدعي دقّ ناقوس الخطر، و”إعلان حالة الطوارئ النفسيّة”.

“ضحايا الأزمة”… “نحن لسنا بخير”!

من ثورة 17 تشرين مروراً بانفجار مرفأ بيروت ووباء كورونا ومن ثمّ الكوليرا، والضغوطات الاقتصاديّة الخانقة التي زادت الطين بلّة وسكبت الزيت على أحلام كثيرين وآمالهم، يختصر غالبيتهم الواقع اليوم بعبارة واحدة كفيلة بتفسير نفسها: “نحن لسنا بخير”.

في الواقع، لم تَسلم أيّ منطقة لبنانيّة من فاجعة انتحار واحدة على الأقل منذ بداية الـ2023، فمن الشمال إلى أقصى الجنوب، حُملوا الضحايا على الأكتاف، ضمن مشهد محزن، وإن كان يدل على شيء، فحتماً يُشير إلى انعدام الرغبة بالاستمرار والعجز الكامل عن الخروج من دوامة الضياع واليأس المحيطة بنا.

في 8 حزيران المنصرم، هزّت قضاء جزين جريمة “بشعة”. أقدم أب على قتل زوجته وحماته، ومن ثمّ نفسه، تاركاً وراءه 3 أطفال لا سند أو ملجأ لهم بعد اليوم. وفي الشوف، لم يكن الوضع أفضل، حين قام أحد المواطنين بخنق زوجته وابنه البالغ من العمر 3 سنوات، وبعدها رمى بنفسه من سطح المبنى.

من بين هذه الحالات الموثقة التي شغلت الرأي العام مؤخراً، واحتلّت الصدارة بنشرات الأخبار وعناوين الصحف، نذكر أيضاً الشابة العشرينيّة، التي حاولت قبل شهرين رمي نفسها من على جسر برج حمود، لولا تدخل أهالي المنطقة وتداركهم الوضع سريعاً، لكانت الآن ضمن عدّاد الضحايا نفسه.

شكاوى خجولة والمساعدة “عيب”!
تُشبّه لينا شيباني، الاختصاصيّة الاجتماعيّة ظاهرة الانتحار بـ”رشّة الملح التي تُلامس الجرح المفتوح”، في إشارة إلى أنّ “الضحايا الذين يُقبلون على الانتحار، هم بالأساس أناس مجروحين، دمّرهم يأسهم وكتمانهم أحياناً لدرجة بات خيار إنهاء حياتهم هو الحلّ الأفضل بنظرهم”.

هذا وتشرح الاختصاصيّة التي تعمل مع عدد كبير من المواطنين ضمن نطاق بيروت لـ”المدن” أنّ “عدد الشكاوى التي تصل إلى الجهات المختصّة والجمعيات المواكبة للظاهرة، لا تتعدّى الـ30%، ببساطة لأن البعض يرى بالمساعدة أمراً معيباً أو ضعفاً، وهنا تبدأ المشكلة برأيي، عندما نرفض الاعتراف بواقعنا ونتظاهر بالقوّة علناً على الرغم من هشاشة داخلنا وواقعنا المؤلم”.

انا فقط أستهلك الأوكسيجين

تروي لينا “ذات مرّة جالستُ أحد الشبان (27 عاماً)، الذي حاول الانتحار أكثر من مرتين بحجة ظروف الحياة وافتراقه عن خطيبته جرّاء الوضع الاقتصاديّ الراهن. في البداية، لم أتقبل فكرة ضعف الإنسان لدرجة التفكير بإنهاء حياته وكأنّه ما مِن حلّ آخر، فالديانات السماويّة أساساً ترفض هذه الظاهرة، وأنا أتحدّر من عائلة ملتزمة دينياً، وفي كلّ مرّة كنتُ ألتقي بها بأشخاص مماثلين، كنت أمرض أسبوعين على الأقل وأشعر نفسي معنيّة بمشاكلهم وبحياتهم بشكل كبير، ولكنني في الوقت نفسه عاجزة عن مساعدتهم وهذا كان أكثر ما يؤلمني. غير أن الحوار الذي دار بيني وبين هذا الشاب لا يزال عالقاً في ذهني، حينما قال لي حرفياً: “لا هدف من حياتي ولا مستقبل واضح، أمي توفيت بسبب السرطان أو بمعنى آخر لعدم قدرتنا على علاجها، وأبي يُحارب مرض السكريّ ليبقى على قيد الحياة، وأختي تزوجت قريبنا الذي لا تُحبّه كي لا تنام جائعة ليلاً وينتهي بها المطاف وحيدة، أمّا أنا فهجرتني خطيبتي بعد 5 سنوات من الحبّ الكاذب لأنّني فقير، وفي عملي طردوني لأنني لست مثل زملائي، فلا “واسطة” حزبيّة أو دينيّة تُسندني… بالله عليكِ، ما فائدة حياتي؟ فأنا أستهلك الأوكسيجين عبثاً”. تُخبرنا لينا.

حالة الطوارئ النفسيّة
انتحار طالب جامعيّ، امرأة تُلقي بنفسها من أحد المباني السكنيّة، انتحار عسكريّ، انتحار عاملة، واللائحة تطول… كلّها عناوين رافقتنا خلال السنوات الماضية ويبدو أنّها ستتزايد أكثر وأكثر في الفترة المقبلة، إذ تُشير “الدولية للمعلومات” إلى أن “استمرار الأمر على هذه الوتيرة، من شأنه أن يرفع عدد ضحايا الانتحار في نهاية العام الحاليّ إلى أكثر من 170 ضحية، وهو الرقم الأعلى المسجّل بين الأرقام في الأعوام الممتدّة من 2012 إلى 2022”.

في هذا الإطار، تلفت المعالجة النفسيّة ليتيسيا الهوا، إلى أنّه “من بين كلّ 10 أفراد، شخصٌ على الأقل يُفكّر بإنهاء حياته نتيجة عوامل عدّة غالباً ما تتمحور حول العجز الاقتصاديّ والضائقة الماليّة المُخيّمة على اللبنانيين بشكل عام”.

في حديثها لـ”المدن”، توضح الهوا أن “الأسباب الاقتصاديّة وآثار تفجير مرفأ بيروت النفسيّ ليسا السبب الوحيد وراء حالات الانتحار، إذْ ثمة ضحايا آخرون وقعوا بفخّ الابتزاز الالكترونيّ، أو المشاكل العائليّة، أو انفصال الوالدين، أو فراق الحبيب أو حتّى بسبب الطرد من العمل أو فسخ عقد عمل جديد بالخارج. فالأسباب عموماً لا يمكن حصرها بدائرة الانهيار الاقتصاديّ وحسب، لأنّها ببساطة نتيجة تراكمات داخليّة نفسيّة لا يُمكن توقعها أو احتساب عواقبها. وبنظر طبّ النفس، لا بد من إعلان حالة الطوارئ النفسيّة والاعتراف بأنّنا شعب يخشى المواجهة ويخجل من البوح بمشاكله أو مواجهتها لأنّنا نفضّل الانطواء على أنفسنا ريثما تتحسّن الأوضاع، ولكن مَن يضمن أنّه خلال هذه المرحلة سنكون قادرين على مواجهة ذاتنا والتغلّب على ضعفنا كي لا نضطر بلحظة معيّنة إلى الانتحار؟”.

ارتفاع كلفة العلاج
“الشخص الذي يُفكّر بالانتحار هو عادةً يُصنّف كشخص يائس، يُعاني من أمراض ومشكلات نفسيّة ويمرّ بحالة اكتئاب، ولكن هذا لا يعني بتاتاً أنّ علاجه أمر مستحيل، لأنّ حتّى أضعف المخلوقات عندما تجد مَن يسمعها ويوجهها بالطريقة الصحيحة، لا شعورياً ستتماشى معه وتتخطّى فكرة الانتحار. ولكن للأسف، فإن ارتفاع تكاليف العلاج النفسيّ والازدحام الكبير على الجمعيات المجانيّة يُشكلّ عائقاً لدى الكثيرين، هذا طبعاً دون أن نذكر أن البعض يجد مسألة الحوار والتواصل مع الاختصاصيين لا فائدة منه أو “عار”، فيتنامى لديه الإحساس باليأس والعجز، ما يدفعه إلى الاكتئاب الحاد أو التفكير بالانتحار أو الإقدام عليه كوسيلة للتخلّص من آلامه”، تقول المعالجة.

حتّى اليوم، لا نعلم إلى أين ستتجه الأمور أو إذا ما كانت سترتفع هذه الأرقام أكثر. ولكن المؤكّد أنّنا نواجه ظاهرة خطيرة ومؤسفة نتيجة غياب الاهتمام بالصحة النفسيّة وسط عدم قدرة الجمعيات على اللحاق بكلّ الشكاوى والاتصالات التي تتلقاها. والسؤال الأبرز يبقى، هل نحن بحاجة فعلاً لإعلان حالة الطوارئ النفسيّة؟

المدن

مقالات ذات صلة