فرنسا ماكرون على صفيح ساخن: احتجاجات 2023 هي الأخطر!
لم تهدأ فرنسا منذ بداية العام. ما كادت تتراجع التظاهرات اعتراضاً على الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة على قانون التقاعد حتى انطلقت انتفاضة احتجاجيّة عنيفة وخطيرة إثر وفاة المراهق نائل (17 عاماً) يوم الثلاثاء 27 حزيران. مقطع فيديو انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وبثّته وسائل الإعلام أظهر أنّ شرطيّين درّاجين أوقفا الشابّ نائل. لم ينصاع لأوامرهما. أقلع بسيّارته هرباً منهما. فأرداه أحد الشرطيين برصاص مسدّسه.
اليوم الشرطي في السجن. نائل نائم إلى الأبد. أمّا فرنسا فتعيش حالة اضطراب هي الأخطر بحسب المراقبين. “جيل 2023 أكثر عنفاً من جيل 2005″، قال أحد الاختصاصيين في علم الاجتماع.
احتجاجات عنيفة في المدن الفرنسيّة
انطلقت الاحتجاجات من مدينة نانتير القريبة جدّاً من باريس، حيث كان يعيش نائل مع والدته. وسرعان ما انتقلت إلى العاصمة وضواحيها. ومنهما إلى العديد من المدن الفرنسيّة. لم تنجح الحكومة في منع “انتقال العدوى” (بحسب تعبير صحيفة “لوفيغارو” الفرنسيّة). في الليل يلبَس العديد من المدن الأنيقة ثوب النار الذي يتحوّل أسود مع بزوغ الفجر. استُبدلت رائحة العطور برائحة البارود والغاز المسيّل للدموع. عادةً ما ينتظر الفرنسيون العيد الوطني في 14 تموز لمشاهدة المفرقعات النارية في العاصمة وكبرى المدن. فإذا بهم يشاهدونها تطلَق على الشرطة. تجرح أفرادها. تحرقهم. الأمر الذي استدعى نقلهم إلى المستشفيات. وينتظرون موسم التنزيلات (الصولد) في نهاية شهر حزيران للتبضّع. فإذا بالمحتجّين على موت نائل يكسّرون واجهات المحالّ. يسرقون ما فيها. ويهربون!
لا يبدو أنّ الاحتجاجات ستهدأ سريعاً، خاصّة أنّ العام الدراسي شارف على الانتهاء. وبالتالي لا إطار مجتمعيّاً يضبط الشباب المراهقين الذين يمارسون العنف ضدّ رجال الشرطة ويعتدون على الأملاك العامّة والخاصّة.
مرسيليا، ثانية كبرى المدن التي تبعد مسافة 800 كيلومتر من نانتير، كانت أشبه بـ”ساحة حرب” (ليل الجمعة 30 حزيران). ففيها ثلث السكّان من أصول عربيّة، وخاصّة جزائريّة. مروحيّات تحوم فوق المدينة. طائرة استطلاع استمرّت تحلّق فوقها إلى ما بعد حلول الظلام. لم تهدأ صفّارات سيّارات الشرطة طوال الليل. سهر المواطنون على دويّ الانفجارات. وتنشّقوا رائحة المفرقعات وقنابل الغاز المسيّلة للدموع. اللبنانيون في المدينة، الذين عاشوا الحرب في لبنان، تذكّروها، وبخاصّة من شارك فيها أو من كان يقطن قريباً من خطوط التماسّ. ما يجري في فرنسا خطير وينذر بالأسوأ.
الكراهية
تنمّ مظاهر العنف عن “كراهية”. هذه الكلمة تردّدت كثيراً على ألسنة المحلّلين والاختصاصيين في وسائل الإعلام. وهي تشمل “كراهية” الدولة، ونظامها، ومؤسّساتها، والشرطة التي تحفظ الأمن فيها… وقد عبّر الشباب المنتفض عن هذه الكراهية بالاعتداء على بعض رؤساء البلديّات وبإضرام النيران في المباني الحكوميّة: مراكز البلديّات، المدارس، مراكز ترفيه للأولاد تابعة للبلديّات، حافلات النقل المشترك، عربات الترامواي (في مدينة “كلامار” المحاذية لباريس). وحاولوا إضرام النيران بالمكتبة العامّة في مرسيليا. هذا ما استدعى إيقاف العمل بالباصات والترامواي في العاصمة باريس وضواحيها ابتداء من الساعة التاسعة مساءً. وفي مرسيليا قرّرت البلديّة إيقافها ابتداء من الساعة الـ6 مساء. وجُمعت من الطرقات الدرّاجاتُ الهوائية والـ”سكوتر” التي تضعها البلديّة عادة في خدمة المواطنين والزائرين. الخسائر كبيرة بعد أربع ليالٍ من الاحتجاجات. وهي ليست سوى البداية…
مراهقون في الاحتجاجات
الوضع الخطير في فرنسا دفع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قطع مشاركته في القمّة الأوروبية المنعقدة في بروكسيل. رأس يوم الجمعة اجتماعاً لخليّة أزمة وزارية. وأدلى بتصريح طلب فيه من الأهل تحمُّل مسؤوليّاتهم في مراقبة ما يتسلّى به أبناؤهم من ألعاب فيديو وما يشاهدونه على مواقع التواصل الاجتماعيّ. وأفاد مصدر في الشرطة بأنّ العديد من الموقوفين تراوحت أعمارهم بين 14 و18 سنة. وشوهد أولاد تراوحت أعمارهم بين 12 و14 يشاركون في أعمال العنف. وهذا ما استدعى من الجمعيات الأهلية إصدار نداءات تدعو الأهل إلى تحمّل مسؤوليّاتهم في ضبط تصرّفات أبنائهم والحفاظ على حياتهم ومستقبلهم.
حالة طوارئ؟!
ردّاً على سؤال عن إمكانية إعلان حال الطوارئ في المدن حيث تدور احتجاجات عنيفة، قال وزير الداخلية جيرار دارمانين: “ليس لأنّه لا حالة طوارئ (معلنة) لن يكون هناك تدابير استثنائية”. وأضاف “لا نستبعد أيّ خيار”. وأعلن أنّ الوزارة زادت جهوزية الشرطة من 40 ألف شرطي إلى 45 ألف على كلّ الأراضي الفرنسيّة.
منذ بداية الاحتجاجات طالب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب اليمين الديغوليّ بإعلان حال الطوارئ في نانتير. وأعلنت مارين لوبان، رئيسة “التجمّع الوطنيّ” – الحزب اليميني المتطرّف، تأييدها للفكرة إذا ما انزلقت الأحداث إلى مزيد من التدهور. ووجّهت صحيفة “لوفيغارو” اليمينية انتقادات للرئيس بعد تعليقه الأوّل على موت الشاب نائل والاحتجاجات التي تبعته. فقد حاول ماكرون، من مرسيليا التي كان في زيارة لها استغرقت ثلاثة أيام، استيعاب نقمة الشارع. وقال عن مقتل الشاب نائل بأنّه أمر “غير مفهوم وغير مبرّر”. وطالب بتهدئة النفوس لأنّ الوقت هو “وقت التأمّل”. يريد اليمين من الرئيس اتّخاذ موقف حاسم تجاه ما يحدث يشبه الموقف الذي اتّخذه الرئيس السابق جاك شيراك ودومينيك دوفيلبان (كان رئيساً للوزراء) ونيكولا ساركوزي (كان وزيراً للداخليّة) تجاه احتجاجات 2005. في ذاك العام انطلقت احتجاجات بعد مقتل شابّين صعقاً بالكهرباء أثناء هروبهما من رجال الشرطة. استمرّت ثلاثة أسابيع. حينها أعلن رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان حالة الطوارئ. وقرّر شيراك تمديدها لثلاثة أشهر.
احتجاجات 2023 هي الأخطر
“ما يحدث اليوم أخطر ممّا حدث في 2005″، يقول ميشال أوبوان (المدير السابق لوزارة الداخلية). إضافة إلى خبرته في الوزارة، نشر الرجل كتابين: واحداً بعنوان “40 عاماً في الضواحي”، والآخر عنوانه “التحدّي أن تكون فرنسيّاً”. يعالج الكتابان مسألتين أساسيّتين في فرنسا: الضواحي وانخراط المتحدّرين من أصول غير فرنسية في المجتمع. غالبية المحتجّين اليوم هم من سكّان الضواحي ويتحدّرون من أصول عربية!
هذان الموضوعان هما اليوم في صلب مناقشة الاحتجاجات على وسائل الإعلام (المرئية والمسموعة والمكتوبة) وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ. وهما مسألتان تهدّدان الاستقرار في فرنسا من وقت لآخر، وتضعان البلاد منذ أيام على صفيح ساخن في بداية موسم الصيف الحارّ.
د. فادي الاحمر- اساس