قرار أممي حول “المخفيين” في سوريا ينكأ جراح الحرب اللبنانية
أثار قرار الحكومة اللبنانية بالامتناع عن التصويت على مشروع أممي لإنشاء هيئة مستقلة للتعامل مع قضية المفقودين في سوريا انقساماً سياسياً وشعبياً واسعاً، إذ استحضر مجدداً قضية اختفاء 17 ألف لبناني خلال فترة الحرب الأهلية، في حين توثق “جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية” أدلة على وجود 622 مخفياً داخل السجون السورية.
ومنذ اندلاع الحرب السورية سجل اختفاء عشرات اللبنانيين في ظروف غامضة لم يتم الكشف عنها، وسط غياب أدلة حاسمة حول إذا ما كانوا لا يزالون على قيد الحياة أو يوجدون في سجون الفصائل المتطرفة أو لدى الجهات الأمنية السورية.
ومنذ 12 سنة تتهرب الحكومة اللبنانية من تحمل مسؤوليتها عن كشف مصير هؤلاء المواطنين، إذ تتذرع أوساط أمنية بأن معظم هؤلاء كانوا يقاتلون إلى جانب الفصائل المسلحة وتنظيمات إرهابية، وأن دمشق لم تكن تبسط سيطرتها على كامل أراضيها، بالتالي لا تتحمل مسؤولية اختفائهم.
وتميز الأمم المتحدة بين توصيفي “الإخفاء القسري” و”الاعتقال”، إذ يعد “الإخفاء” خطف شخص بمعرفة الدولة أو قوى الأمر الواقع، بينما المعتقل هو شخص محروم من الحرية ومعروف مكانه ومعترف بوجوده.
وتطالب أوساط قانونية بالتمسك بتوصيف المفقودين اللبنانيين في السجون السورية على أنهم “مخفيون قسراً”، من أجل الاحتفاظ بحق بمعرفة مصيرهم، وملاحقة الموضوع والحصول على تعويضات.
مؤسسة مستقلة
وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنت قراراً ينص على إنشاء مؤسسة مستقلة تحت رعاية المنظمة الدولية للتعامل مع قضية المفقودين والمخفيين قسرياً في سوريا، وحظي مشروع القرار الذي صاغته لوكسمبورغ بدعم 83 دولة، في حين اعترضت عليه 11 دولة، وامتنعت 62 دولة عن التصويت من أصل 193 دولة عضواً في الجمعية العامة.
ووفق تقديرات الأمم المتحدة، يزيد عدد المفقودين في سوريا منذ عام 2011 على 100 ألف شخص، إضافة إلى وجود مفقودين منذ ما قبل هذا التاريخ، وستنحصر مهمة هذه المؤسسة في توضيح مصير الأشخاص المفقودين وتقديم الدعم للضحايا وأسرهم.
وسيتم تمويل المؤسسة من خلال الميزانية العادية للأمم المتحدة لضمان استمرارها، حيث يتوقع أن تصل كلفتها إلى ثلاثة ملايين دولار في عام 2024، وأكثر من 10 إلى 12 مليون دولار في عام 2025.
وخلال طرح مشروع القرار، اعترض سفير النظام السوري لدى الأمم المتحدة بسام الصباغ على المشروع وطالب بإلغاء الجلسة، معتبراً القرار تدخلاً في الشؤون السورية الداخلية، كما طالب الدول الأعضاء بالتصويت ضد هذا القرار.
وأكد الصباغ أيضاً أن النظام السوري لم يشارك في المناقشات حول إنشاء المؤسسة المزعومة، ولم يتلق دعوة للتشاور بهذا الصدد، علماً أن عدداً من المسؤولين، بمن فيهم مسؤولون في الأمم المتحدة، حاولوا التفاوض مع سوريا للاتفاق على إنشاء هذه الآلية.
آلية دولية
ووفق المعلومات، فإن المؤسسة التي أنشئت بموجب القرار الأممي مطالبة بتوضيح مصير جميع المفقودين وأماكن وجودهم، وتقديم الدعم للضحايا وأسر المفقودين، على أن يضع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اختصاصات المؤسسة في غضون 80 يوم عملاً، بالتشاور مع جهات فاعلة مختلفة، بما في ذلك مشاركة الضحايا والناجين وأسرهم.
ويطالب القرار كل الدول وأطراف النزاع في سوريا بالتعاون الكامل مع المؤسسة المستقلة، ويحث منظمات الأمم المتحدة بأكملها على التعاون التام معها والاستجابة بشكل سريع لأي طلبات تقدمها، بما في ذلك تزويدها بالمعلومات والوثائق، وخصوصاً تزويدها بأي معلومات أو بيانات قد تكون لديها، فضلاً عن أي أشكال أخرى من المساعدة التي قد تحتاج إليها لأداء مهامها.
كذلك، تطلب الجمعية العامة من الأمين العام تقديم تقرير عن تنفيذ هذا القرار خلال الـ100 يوم عملاً الأولى، وتقديم تقارير سنوية حول أنشطة المؤسسة المستقلة.
الإجماع العربي
وبعد توالي ردود الفعل المستنكرة لامتناع لبنان عن التصويت على المشروع، “بررت” الخارجية اللبنانية قرارها بـ”التماشي مع شبه الإجماع العربي، وعدم تسييس الملف الإنساني بامتياز”، إذ لم يصوت إلى جانب القرار سوى دولتين عربيتين هما قطر والكويت، إضافة إلى أن “القضايا العالقة بين لبنان وسوريا قابلة أن تعالج بشكل ثنائي”.
إلا أن تبريرات الخارجية لم تقنع شريحة واسعة من القوى السياسية في لبنان، حيث اعتبر بعضها أن “التذرع بالإجماع العربي في غير مكانه، حيث كان يفترض أن يكون حاضراً في قضايا أخرى صوت لبنان فيها إلى جانب إيران ضد العرب”، مشيرة إلى أن “لدى لبنان عدداً كبيراً من المخفيين في السجون السورية، بالتالي وضعه مختلف عن دول كثيرة”.
أعداء الدولة
في السياق، ندد جورج كساب، وهو شقيق المصور اللبناني سمير كساب الذي اختطف في سوريا قبل تسع سنوات، بلا مبالاة السلطة اللبنانية تجاه مواطنيها، و”كأننا أعداء للدولة اللبنانية”، مضيفاً أن ذلك كما ينسحب على قضية شقيقه سمير، ينسحب أيضاً على جميع المعتقلين في السجون السورية وضحايا تفجير مرفأ بيروت.
وكشف عن أن كل مسؤولي الدولة منذ عهد الرئيس الأسبق ميشال سليمان، وصولاً إلى عهد الرئيس السابق ميشال عون، وكل رؤساء الحكومات والوزراء والنواب، لم يقوموا بأي دور فعال لكشف مصير سمير كساب ورفاقه الذين اختفى أثرهم في سوريا أثناء قيامهم بعملهم الصحافي. وأضاف جورج كساب أن “المسؤولين لا يجرؤون على التحدث مع النظام السوري في قضية المعتقلين، ولا بملف أخي سمير”، كاشفاً عن أن آخر معلومة وصلت إليه عن أخيه كانت أنه كان متوجهاً من الرقة إلى الميادين، لكن تلك المعلومات غير مؤكدة، لأن هناك علامات استفهام حول الشخص الذي تم لقاؤه، متأسفاً لعدم وجود جدية من قبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي لم يسع مع الحكومات السورية والعراقية والتركية لكشف مصير الشاب اللبناني.
مفقودون أميركيون
في السياق، طالب رئيس جمعية المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية، المعتقل السابق، علي أبو دهن، وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب بالاستقالة الفورية من منصبه كونه “خذل اللبنانيين وأهالي المواطنين المخفيين قسراً في السجون السورية”، واصفاً القرار اللبناني بـ”المعيب والمثير للاشمئزاز”. وأضاف “ألا يخجل مما سيقوله التاريخ عنه وعن هذه الحكومة التي تعمل لصالح قاتل ومجرم حرب وسفاح”، مديناً “الموقف الشنيع في حق رفاقنا الـ622 المعتقلين قسراً”.
وشدد على أن “تصويت لبنان كان ضرورياً من الناحية الأخلاقية والمعنوية لأهالي مئات المخفيين في السجون السورية”، معتبراً أن “القرار قد لا يكون فعالاً لناحية كشف مصير المخفيين، إلا أنه يشكل ورقة سياسية فرضتها قوى عظمى ومؤثرة داخل الأمم المتحدة للضغط على النظام السوري”.
وأشار إلى أن “الوثائق والصور التي عرضها قيصر (الشخص المجهول الذي قيل إنه سرب صوراً لضحايا تعذيب في سوريا بين عامي 2011 و2014) على المحافل الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، وهي عبارة عن أكثر من 55 ألف صورة لمعارضين سوريين في السجون السورية، وأبرزها سجن تدمر، حيث تعرضوا للتعذيب والقتل الوحشي، هي خير دليل على ارتكابات الأمن السوري”، مؤكداً أن الأهالي تعرفوا على نحو 11 ألف ضحية.
وتوقع أبو دهن أن “يبقى هذا القرار حبراً على ورق كسواه من القرارات الدولية التي صدرت في حق النظام السوري بسبب الجرائم التي ارتكبها في حق شعبه والشعب اللبناني”، مرجحاً أن تكون “الاندفاعة الأميركية تجاه هذا القرار سياسية بهدف تشديد العقوبات على النظام السوري والمطالبة بالإفراج عن مفقودين أميركيين في سوريا، وأبرزهم الصحافي الأميركي أوستن تايس”.
شريك النظام
من ناحيتها، أكدت رئيسة لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني، أن “هذه الخطوة فاقمت وجع الأهالي”، معتبرة أنه “ليس مستغرباً أن تمتنع الدولة اللبنانية عن التصويت لصالح القرار الأممي، لا سيما أنها لم تقصر في عرقلة عمل الهيئة الوطنية لمعرفة مصير المفقودين والمخفيين قسراً، ووضعت كل الصعوبات والتحديات أمامها كي لا تقوم بالمهمة الوحيدة المعنية بها”، وقالت إن “هذه دولة كاذبة ولا تحترم شعبها ولا تحترم حقوق الإنسان”.
ورأت حلواني أن “لبنان شارك مجدداً النظام السوري في ممارساته غير الإنسانية، وتخلى عن حق الآلاف من الأحياء في معرفة مصير مفقوديهم”، مؤكدة أنها ستستكمل العمل مع جميع الأهالي لمعرفة مصير أبنائهم، وأضافت “سلاحنا حقنا، ولن نرميه، ولن نتخلى عن أهلنا، ولن نفاوض على حقوقهم، نحن نعيش على قوة سلاح الحق وعلى الأمل الذي لا نستطيع أن نفقده”.
اندبندنت