التوقيع الشيعي الثالث: باش كاتب؟

لم يكن بيان وزارة الماليّة الأخير، حول تقرير التدقيق الجنائي، سوى أحد الفصول المأساويّة في مسلسل التدقيق الجنائي. من عوارض المأساة، أن تعتبر الوزارة أنّ دورها في الملف اقتصر على “التنسيق” بين المصرف المركزي وشركة التدقيق، ليهرب بذلك وزير الماليّة من مسؤوليّة التعامل مع مضمون التقرير. ومن عوارض المأساة أيضًا، أن يقذف الوزير كرة النار في ملعب رئيس الحكومة، عبر القول بأنّ التقرير النهائي سيكون “ملكًا” (؟) للحكومة وليس لوزارة الماليّة. وفي البيان أيضًا، يشتري الوزير مهلة غير مقيّدة للماطلة الإضافيّة، تمامًا كما حصل منذ العام 2020، عبر القول إن الوزارة ما زالت في مرحلة “جمع الإيضاحات حول بعض الاستفسارات” .

في خلاصة الأمر، جاء يوسف الخليل ليحاول تبرير فضيحة إخفاء نتائج التدقيق الجنائي من قبل وزير الماليّة، بعد أسبوعين من تسلّم التقرير، فكان بيانه بحد ذاته فضيحة أكبر. وبعد أكثر من ثلاث سنوات من العراقيل والمماطلة في هذا الملف، جاء يوسف الخليل ليقول أنّ هامش اللعب لم ينته بعد، وأنّ بحوزته المزيد من المساحة للهروب من مسؤوليّاته، واستكمال المهمّة التي أتوا به لأجلها: حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.

البيان الفضيحة
بعكس ما يقوله بيان وزير الماليّة، عقد التدقيق الجنائي مع آلفاريز آند مارسال واضح جدًّا: وزارة الماليّة هي الجهة المعاقدة مع الشركة، وهي الطرف الذي يتم لمصلحته التدقيق، وهي المخوّلة بنشره والتعامل معه بالطريقة التي تريدها. وأكثر من ذلك، وزارة الماليّة هي الطرف الذي يملك صلاحيّة البت بالشبهات التي كشفها تقرير التدقيق الأوّلي، وهي من يجب أن يطلب من الشركة التعمّق أكثر في هذه الشبهات في المرحلة المقبلة.

ومن ناحية أخرى، القانون اللبناني واضح في هذه المسألة. وزير الماليّة هو الوصي على حاكم مصرف لبنان والمصرف المركزي، وهو من يفترض أن يتولّى التدقيق في أرقام المصرف من خلال مفوّضيّة الحكومة في المصرف، التي تتبع قانونًا لوزارة الماليّة. ومن المعلوم أن منصب المفوّض شاغر في الوقت الراهن، ما يترك ليوسف الخليل هامشًا من المناورة بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان.

وفي جميع الحالات، تشير المصادر المتابعة للملف أنّ ما استلمه يوسف الخليل هو بالفعل التقرير الأوّلي، الذي يفترض أن يتم البناء عليه في المرحلة المقبلة، فيما أبلغ الخليل عدّة أطراف أنّ هناك “ما يمنعه” من الكشف عن مضمون التقرير. أمّا لعبة “الإيضاحات” التي ينتظرها من مصرف لبنان، فليست سوى باب جديد من أبواب التسويف والمماطلة وشراء الوقت.

وعلى النحو نفسه، يمثّل اعتبار وزارة الماليّة أنّ مضمون التقرير سيكون “ملكًا” لمجلس الوزراء هروبًا واضحًا من المسؤوليّة. إذ أنّ وزارة الماليّة تملك حق المبادرة، عبر طلب تحريك دعوى الحق العام أو فتح تحقيق قضائي بشأن هذه الشبهات. أمّا ما فعلته وزارة الماليّة في بيانها الأخير، فليس سوى ترك الأمور معلّقة بانتظار تعامل رئاسة مجلس الوزراء مع هذه الشبهات، من دون أي سبب منطقي أو مسوّغ.

صورة واضحة
في خلاصة الأمر، ثمّة ثلاثة أبواب للتسويف في بيان وزارة الماليّة: مسار “التوضيحات” المطلوبة مصرف لبنان، وتقاعس وزارة الماليّة عن استعمال الصلاحيّة الحصريّة التي تملكها في متابعة أمر الشبهات، وانتظار تحرّك رئاسة مجلس الوزراء. ومن تابع مسار التدقيق الجنائي منذ العام 2020، يعرف جيّدًا أن المنظومة السياسيّة ستستعمل كل باب متاح من أبواب المماطلة والتسويف، بانتظار دفن هذا المسار أو الإجهاز عليه.

مع الإشارة إلى أنّ عقد التدقيق الجنائي الأساسي يعطي اللبنانيين صورة واضحة عن ما يتضمّنه تقرير التدقيق الأوّلي: كشف أسباب تراكم الخسائر، والجهات المستفيدة من العمليّات المشبوهة التي جرت في المصرف المركزي، وخصوصًا الهندسات الماليّة، بالإضافة إلى تبيان المستفيدين الفعليين من التحويلات التي جرت من احتياطات مصرف لبنان. وهذه الحقائق، من شأنها أن تلعب دورًا كبيرًا على مستوى عمليّة توزيع الخسائر، التي يحاول الحاكم الآن هندستها من خلال أعمال التزوير التي تجري في ميزانيّة المصرف المركزي.

التوقيع الشيعي الثالث: باش كاتب؟
الطريف في الموضوع، هو أنّ من يلعب الباش كاتب اليوم، في مسار التدقيق الجنائي، ليس سوى وزير الماليّة الذي خاض البعض معركة لتعيينه تحت عنوان فرض “التوقيع الشيعي الثالث”، وحماية صلاحيّات الطائفة الشيعيّة ونفوذها داخل النظام السياسي. وفي لحظة واحدة من الزمن، حين اقتضت مصلحة النخبة الماليّة ذلك، تحوّل التوقيع الشيعي الثالث إلى سكرتير يقتصر عمله على التنسيق بين مصرف لبنان وشركة التدقيق الجنائي، كما أشار بيان وزارة الماليّة الأخير.

الأطرف هنا، هو أنّ هذا الكلام مرّ مرور الكرام، في حين أنّ هناك من خاض المعارك في الماضي لتبيث ما يراه أهم إنجازات اتفاق الطائف: إعطاء كل وزير حيّزًا وصلاحيّة للعمل في وزارته، بدل أن يقتصر دوره على العمل الإداري تحت وصاية رئيس الجمهوريّة. وفي لحظة من الزمن أيضًا، لم تعد مسألة الصلاحيّات، التي يُثار حولها الجدل الدستوري المتكرّر، أولويّة لدى المرجعيّة السياسيّة التي ترعى عمل وزير الماليّة.

ببساطة شديدة، تسلّط كل التطوّرات الضوء على أسلوب عمل المنظومة السياسيّة، الذي اعتاده اللبنانيون. فالاستقطابات حول الشعارات الطائفيّة والصلاحيّات والأدوار ليست عناوين فارغة، يلجأ إليها كل طرف حين تفرض ذلك مصالح معيّنة. ثم تنام هذه الشعارات أو يُقفز فوقها، حين تقتضي المصالح نفسها ذلك. وعلى هذا النحو، جاء يوسف الخليل كبطل حامٍ لموقع ومصالح الطائفة الشيعيّة داخل النظام السياسي، قبل أن يتبيّن أن دوره لم يتجاوز حدود حماية التقاطعات السياسيّة التي تغطّي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وحين تطلّب الأمر أن يكون مجرّد “باش كاتب”، فعلها!

مجددًا: لمأساة الانهيار الحاصل ألوان وفصول. ومنها أن يكون مدير عمليّات المصرف المركزي، واليد اليمنى لحاكم مصرف لبنان، في مرحلة ما قبل الانهيار، هو نفسه وزير الماليّة الذي يدير مرحلة الانهيار. ومن ألوان المأساة أن لا يسمع اللبنانيون بدور ما لوزير ماليّتهم، في ظل الأزمة الراهنة، إلا حين ترتبط المسألة بخطوة يمكن أن تحمي حاكم المصرف المركزي. ومن ألوانها أيضًا، أن يعرفوا أن هناك تقريرًا من مئات الصفحات ينام في أدراج وزارة الماليّة، بخصوص الأسباب التي أدّت إلى هذا الانهيار، فيما يمتنع وزير المال عن نشر التقرير لأنّ هناك “ما يمنعه” من فعل ذلك، كما أشار بنفسه.

علي نور الدين- المدن

مقالات ذات صلة