“الحزب” يفتّش عن ضمانات دستوريّة أم سياسيّة بالرئاستين والوزراء؟!
الضمانات لـ”الحزب” تشمل الحكومة لا الرئاسة وحدها!
يتزايد الحديث عن أنّ “الحزب” يسعى إلى ضمانات في صيغة الحكم بالتزامن مع المداولات الجارية من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي، ولا سيّما بعد الجولة الاستطلاعية للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، وذلك على الرغم من أنّ “الحزب” لم يفصح عمّا يسعى إليه من تغيير في الصيغة السياسية للنظام. هل هي تعديلات دستورية تكرّس مكاسب وامتيازات للطائفة التي ينتمي إليها استناداً إلى أنّه بسلاحه قدّم تضحيات في مواجهة إسرائيل وأطماعها في لبنان يتوجّب أن يكون لها مقابل، أم هي مكاسب سياسية في السلطة، بدءاً بالرئاسة الأولى وصولاً إلى تركيبة الحكومة المقبلة، يفرضها ميزان القوى الراهن ويتمّ تكريسها بالعُرف؟
وسط الغموض المقصود جواباً على السؤال الذي يتردّد: “ماذا يريد “الثنائي الشيعي” من وراء تشبّثه بالرئاسة؟”، لطالما ردّدت الأوساط السياسية أن لا بدّ من أن يحصل “الحزب” على مكاسب مقابل معادلة جديدة لانضواء سلاحه تحت إمرة الشرعية اللبنانية. لكنّ الإشكالية الراهنة تكمن في أنّ المطروح معادلة تضمن له استمرار سلاحه مستقلّاً عن الدولة، بحجّة جديدة هي حماية الثروة النفطية والتنقيب عنها، محلّياً، وأنّ محور “الممانعة” يواجه ضغوطاً أميركية إسرائيلية إقليميّاً.
اتّهام الخصوم بالسعي لتغيير الصيغة ثمّ المطالبة به
تكتفي قيادة “الثنائي” باتّهام خصومها بالسعي إلى تغيير صيغة الحكم، مستندة إلى تصريحات رئيسَيْ حزبَيْ “القوات اللبنانية” سمير جعجع و”الكتائب” سامي الجميّل، الداعية إلى تعديل في تركيبة الحكم في لبنان، وارتفاع الأصوات الداعية إلى نوع من الفدرالية، إذا استمرّ “الثنائي” بتمسّكه بمرشّحه للرئاسة، وتعطيله انتخاب الرئيس عبر نسف نصاب البرلمان.
يتجاوز بعض خصوم “الممانعة” السجال اليوميّ في مسألة النصاب في البرلمان وأسماء المرشّحين… وتعداد أصوات كلّ من رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، ومرشّح تقاطع المعارضة مع “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جهاد أزعور، ويتصرّفون على أنّ الإيحاءات الصادرة عن “الحزب” في محطّات عدّة بنيّته تغيير الصيغة تمهّد لوضع مطالبه على طاولة البحث. فحجّة “الحزب” القائلة إنّ الـ51 نائباً الذين صوّتوا لفرنجية انتُخبوا من 250 ألف لبناني، فيما الـ59 الذين صوّتوا لأزعور انتُخبوا من عدد أقلّ من اللبنانيين، تعيد سجال العدديّة إلى الواجهة.
يذهب بعض الخصوم إلى مقارنة التمهيدات في شأن تعديل الصيغة مع مطالبة أذرع إيران مثل الحوثيين في اليمن، بحصة كبرى في السلطة بعد نجاحهم في تكريس انقلابهم على الشرعية منذ 2015، أو بتشبّث حلفائها الأقربين بالسلطة، ورفض مشاركة مكوّنات أخرى في الحكم، كما هي الحال في سوريا.
لودريان والتدرّج في توضيح الأهداف
تفصح قيادة “الحزب” عن هدفها بالتدرّج. يستند هؤلاء إلى ما سمعه موفد البطريرك الماروني المطران بولس عبد الساتر من الأمين العام السيد حسن نصر الله، عن عدم اكتفائه بضمانات فردية يقدّمها رئيس الجمهورية المقبل في شأن المرحلة المقبلة، والحاجة إلى حوار في مؤتمر ينعقد لهذه الغاية وينتهي باتفاق على ضمان استمرار المقاومة ودورها ضدّ مشاريع من نوع “تهجيرنا إلى جنوب العراق” إبّان حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2006، كما نقل عبد الساتر عن نصر الله.
ينسبون ذلك أيضاً إلى كلام سمعه الموفد الفرنسي جان إيف لودريان من “الحزب”، عن رفضه التوافق على أيّ مرشّح آخر غير فرنجية، وتلميح قيادته إلى الحاجة إلى تعديلات فُهِمت بأنّها دستورية، تكرّس له مكاسب باسم الطائفة الشيعية، في السلطة التنفيذية. وقد نقل ما سمعه في هذا الصدد إلى قيادات في الفريق الآخر، وإلى البطريرك الكاردينال بشارة الراعي. وبعض مصادر المعلومات قالت إنّ رفض التخلّي عن فرنجية يوازيه تأكيد تلقّاه الموفد الرئاسي الفرنسي أنّ قائد الجيش العماد جوزف عون “لا يمرّ”.
من يستعيدون ما تسرّب عن المداولات التي أجراها الراعي مع الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته باريس آخر أيار الماضي، يشيرون إلى أنّ الجانب الفرنسي نصح قبل الزيارة وأثناءها بتسوية مع الفريق الشيعي لأنّ بقاء الفراغ يقود إلى طرح تعديلات في اتفاق الطائف يخسر المسيحيون فيها المزيد من مواقعهم في السلطة. وينقل بعض مصادر الفرقاء المؤيّدين لفرنجية عن الجانب الفرنسي أنّه بعد الذي سمعه لودريان من “الحزب”، بقيت باريس على قناعتها بأنّ الشخص المتاح انتخابه في هذه الظروف هو سليمان فرنجية.
الرئاسة “موضوع استراتيجيّ”
يفتح إعلان لودريان نيّته تسهيل حوار بين الفرقاء الباب على فكرة مؤتمر يمكن أن ينعقد في إحدى العواصم العربية تردّد أنّها قد تكون القاهرة في كنف الجامعة العربية، للبحث في صيغة الحكم في لبنان.
تلويح “الحزب” بتعديل صيغة الحكم هو من باب وضع المعارضين لخياره بين أن يحصل على ضمانات سياسية لاستمرار دوره السابق من خلال شخص الرئيس العتيد الذي يطمئنّ إليه، أي فرنجية، وبين رفع شعار “الحوار” الذي يتيح عقد مؤتمر وطني يكرّس تشريعاً دستورياً لهذا الدور في حال الإصرار على رئيس غير فرنجية. لذلك تشمل الضمانات الحكومة المقبلة ونوعيّتها. وسبق لنصر الله أن شدّد في خطاب علنيّ الخريف الماضي على أهميّة موقع الرئيس، في معرض شرحه لمعاييره، منوّهاً بأهمية دور الرئاسة الأولى في تشكيل الحكومة.
في خطاب لاحق له في 11/11/22، قال نصر الله حرفيّاً: “مع الصلاحيّات الموجودة ضمن اتفاق الطائف والدستور اللبناني الحالي رئاسة الجمهورية موقف، ومفصل مهمّ، وحسّاس ومصيري بالنسبة للبنان، ويترك أثره على 6 سنوات وما بعد سنوات، يعني لا تنتهي بعد انتهاء 6 سنوات”، مشيراً إلى أنّ عناصر قوّة لبنان هي المقاومة وسلاحها الذي مكّن لبنان من الحصول على حقوقه في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، ودورها المستقبلي في حفظ حقوق لبنان النفطية. وأضاف: “من أهمّ المواقع المعنيّة بالحفاظ على عناصر القوّة موقع رئاسة الجمهورية، وهذا موضوع استراتيجي… وإذا كنّا سنستخدم مصطلحاً آخر نقول إنّ له علاقة أيضاً بالأمن القومي للبنان”. ومن الطبيعي أن يُفهمَ قصدُه بأنّه الأمن القومي لمحور الممانعة وإيران.
ضمانات دستوريّة أم سياسيّة بالرئاستين والوزراء؟
في 19/1/23 شرح نصر الله في كلمة له أهميّة الرئيس الذي “لا يطعن المقاومة في الظهر”، مستشهداً بمواقف الرئيسين السابقين إميل لحود وميشال عون، فأكّد أنّه “عندما نتكلّم عن رئيس جمهورية، لسنا نُفتّش على رئيس لنقطّع 6 سنوات. نحن نبحث عن رئيس جمهورية من هذا النوع، يكون البداية، وطبعاً يجب أن نبحث عن حكومة من هذا النوع وعن وزراء من هذا النوع، لا أن يطلع غداً أيّ وزير أو رئيس ويقول هذا لا أستطيع أن أفعله، اتّصلوا بي من السفارة الأميركية”.
قبل بضعة أسابيع قال رئيس المجلس التنفيذي في “الحزب” السيد هاشم صفي الدين: “إذا لم يسارع بعض اللبنانيين إلى ما يُعرض عليهم الآن، فسيأتي الوقت وهم غير قادرين على أن يحصلوا حتى على العرض الذي يُعرض عليهم اليوم، وبالتالي على هؤلاء أن يستعجلوا اغتنام هذه الفرصة، والتأخير ليس لمصلحتهم على الإطلاق، لأنّهم فاقدو أوراق القوة”.
تلقي استعادة كلام نصر الله عن الرئيس المطمئن، ثمّ دوره في ضمان نوعيّة الحكومة، الضوء على أسباب تعثّر تشكيل الحكومات في عهد الرئيس عون. فـ”الحزب”، في معرض غضبه على رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل لرفضه خيار فرنجية، يتعاطى مع الأخير على أنّه عاقّ لم يبادله الدعم الذي تلقّاه منه، إذ تأخذ أوساطه على باسيل أنّه لم يبادله الجميل “بعدما وقفنا معه ضدّ (رئيس الحكومة السابق) سعد الحريري”. ولذلك يردّ باسيل بالقول إنّ نصر الله يعرف ماذا قدّم تيّاره للمقاومة (من خدمات سياسية).
الربط بين الرئاسة الأولى والرئاسة الثالثة ونوعية الوزراء، في مفهوم “الحزب”، يعاكس المعادلة التي عملت لها فرنسا وقامت على رئيس من معسكر “الممانعة” مقابل رئيس للحكومة من صفّ المعارضة، يرضي السعودية، مع ضمانات بعدم التعطيل والمداورة في الحقائب ومناقشة الاستراتيجية الدفاعية… لأنّ “الحزب” يفتّش عن الضمانات في مؤسّسات الحكم كافّة.
أمّا المعضلة في إجراء تعديلات دستورية في الصيغة، مع ما تعنيه من تغيير في اتفاق الطائف، فتكمن في أنّ خيار التعديل لا يلاقي قبولاً خارجياً. وإذا كان الأمر يتطلّب شبه إجماع لبناني، فإنّه يحتاج إلى توافق دولي، ولا سيّما بين الدول الخمس التي ترعى أزمة لبنان: فرنسا، الولايات المتحدة الأميركية، السعودية، مصر وقطر. وما تقرّره الخماسيّة في الشأن اللبناني يحتاج إلى إجماع بين دولها غير متوفّر.
وليد شقير- اساس