النفوذ السياسي يُطيح بساحة الجميزة-مار مخايل: انتصار التضليل

أن تقطن في بيروت اليوم، يعني أن تعيش في صندوقٍ كبير، بهوائه المُتخثّر حدّ الاختناق. وأن تتمشى في شوارع المدينة، يعني أن تشعر في كل خطوة، بأنها تركلك من مساحاتها المغلقة. تزدريك لمُجرد تفكيرك بأن هناك مساحة مُخصصة لك وللعموم أمثالك.

بيروت اليوم، مُناهضة للعموميّة، مناضلة ضدّ فرح الأطفال وضحكاتهم في الحدائق، وللمسنين الجالسين على مقاعد الحدائق، كارهةٌ للأجساد المستلقية على رمال الشاطئ مجاناً، لكل جسدٍ يستفيد من الحياة المدينية بالمجّان.

سجال السّاحة العامة

على امتداد الأسابيع الماضيّة، يعيش سكّان شارعي الجميزة ومار مخايل حالةً من التّوتر والقلق إثر انطلاق ورشة لاستحداث ساحة عامة وتوسيع الأرصفة بمبادرة من مختبر “المدن” في “الجامعة الأميركية في بيروت” عند تقاطع الجميزة – مار مخايل، في آذار الماضي. هدف تلك المُبادرة في مدخل شارع مار مخايل هو إعطاء الأولوية للمشاة للتمتع بمساحة عامة. وهو يوسّع هبوط درج غلام عند تقاطع شارعي باستور وأرمينيا وصولاً إلى ساحة عامة، كما يشمل التصميم التشجير وإنارة الشوارع وأنظمة الصرف الصحي المستحدثة، وهي من تصميم المهندس الراحل حبيب دبس بالتعاون مع فرنسيس لاندسكايبس.

للوهلة الأولى، يبدو المشروع بمثابة نقلة نوعيّة لأحد أكثر المناطق المتضررة من انفجار 4 آب. لكن المفارقة أن سكان الشارع ممتعضون حدّ الاعتراض. إذ رفع سكان المنطقة عريضة إلى محافظ بيروت القاضي مروان عبود، تتضمن تعديلات مُقترحة لتغيير شكل المشروع وهدفه. هذا عدا تدخلات أصحاب النفوذ السياسي في المنطقة، وعرقلة العمل وصولاً إلى توقيف المشروع كلياً منذ أكثر من شهر. بالإضافة إلى تظاهر الأهالي للمطالبة بوقف المشروع، فيما توكّل عبود حلّ القضية عبر تقريب وجهات النظر بين “مختبر المدن” والأهالي المعترضين والأطراف السياسيّة.

أما حركة الاعتراض المُباغتة (الممثلة بشقيق النائب غسان حاصباني، إيلي الحاصباني المحسوب على القوات اللبنانيّة) فقد فاجأت القيمين على المشروع الذين أكّدوا على استطلاع رأي أهالي المنطقة مسبقاً قبل إعداد المشروع وتصميمه. تدخّل حاصباني أتى بذريعة التخوّف من زحمة السير في المنطقة أولاً، وبالمساحة الأكبر لانتشار “المتسولين والنازحين السوريين والمشاغبين والدعارة”، ثانياً. هذا بالإضافة إلى حجج أخرى، كالتخوف من تقليص عدد مواقف السيّارات، وهو ما “يضرّ بالمصالح التجاريّة والمحال المفتوحة في المنطقة، فضلاً عن كون انتشار الحانات على الأرصفة بعد توسيعها سيجذب ضوضاء غير مرغوب بها”، وفق معلومات “المدن”.

في بيان توضيحيّ مرفق بمقطع فيديو صادر عن “مختبر المدن”، أشار المختبر إلى أن “هذه الساحة هي جزء من خطة النقل السّلس (Plan de déplacements doux)، إذ يمرّ أحد المداخل نحو المسار الأخضر عبر الأدراج التاريخية في منطقة الرميل، ومن بينها درج غلام الذي أُعيد تصميمه بعد انفجار 4 آب.

الأهالي وقعوا على عريضة لاستكمال المشروع!

اللافت أن حملة التّضليل ضد المشروع، أتت بعد الموافقة عليه من قِبل المجلس البلدي ومحافظة بيروت وجهات محلية أخرى قبل دخوله حيّز التنفيذ في آذار 2023. وكان من المقرّر انتهاء العمل بالمشروع في تموز 2023، لولا التدخلات في الآونة الأخيرة.

تواصلت “المدن” مع المسؤولين في “مختبر المدن” التابع للجامعة الأميركية في بيروت، للاستيضاح أكثر عن السّجال الذي تجنّب السّكان الحديث عنه لدى زيارة “المدن” إلى المنطقة. في هذا السّياق، تشرح المهندسة المعمارية والباحثة في “مختبر المدن” ماريا رجحة قائلةً، “تمكّنا من إكمال المشروع بالمرحلة الأولى منه، من دون قطع الطريق نهائياً، اليوم وبمتابعتنا العمل على إيجاد أرضيّة مشتركة للحديث وحلّ وسط بيننا وبين الأطراف السّياسيّة في المنطقة. وعلى رغم أننا أجرينا حوالى 8 تعديلات على المشروع حتى الآن، لم ترضَ الأطراف المدعومة حزبياً على المشروع.. وصلنا إلى حائطٍ مسدود، ونخشى أن يتوقف المشروع من دون إكماله”.

تضيف رجحة، “رفعنا عريضتين، الأولى موجهة لكل الخبراء المعماريين والباحثين والمهندسين المدنيين بينهم نقيب المهندسين، وحتى الآن وقّع عليها 200 شخص. العريضة الثانيّة للسّكان، ووقعها حوالى 50 شخصاً ممن يقطنون لصق المشروع. وهذا دليل على أن السّكان بشريحة واسعة منهم يريدون المشروع، على عكس ما تدعي الأطراف السّياسيّة”.

“مختبر المدن” يدحض حجج النافذين

ردّاً على الحجج التي تذرّع بها النافذون لإبطال العمل على المشروع، يُؤكّد “مختبر المدن”، أنه “تمّ الحفاظ على عدد مسارب السيّارات ذاتها بالاتّجاهين، أي لا تأثير للمشروع على حركة مرور السيارات، لقد صُمّم المشروع من خلال التحدث إلى أشخاصٍ يعرفون الحيّ و/أو يعيشون هناك، والمشروع لا يقلّل من عدد مواقف السيّارات، بل يعيد توزيعها. فضلاً عن كونه يحتوي على مكون رئيسي لصرف المياه المبتذلة. أما في يخص المخاوف الأمنيّة وراحة السّكان، فإن المحافظ، القاضي عبود، تعهّد بعدم السماح لامتداد الحانات والطاولات في الساحة المصممة هنا. وإذ يتخوّف السكان من جذب الأماكن العامة والمقاعد والأدراج في بيروت أشخاص غير مرغوب فيهم، شكلوا ازدياداً للتهديد الأمني.. فلقد أضاف المشروع 9 أعمدة إنارة للشوارع، والتي يقول المصممون الحضريون إنها تحسّن السلامة”. كما ورد في الفيديو الذي نشره المختبر أنه “خلافاً لما يشاع، هذا المشروع لا يكلّف آلاف الدولارات وجميع الاستشاريين الذين شاركوا في تصميم وتطوير أفكاره قد تطوّعوا بوقتهم وخبراتهم من دون أي مردود مادي. فأي ادّعاء بالاستفادة من المشروع هو تجنٍ يفضح ممارسات المتجني وليس أخلاق أصحاب هذه المبادرة”.

المدن

مقالات ذات صلة