روسيا نجت من حرب أهليّة… ولكن: هل تنشب أزمة أكبر؟
نجت روسيا من حرب أهلية السبت. لا مبالغة في هذا الاستنتاج لمن رأى القافلة الطويلة للآلاف من مقاتلي مجموعة “فاغنر” تتجه من مدينة روستوف في جنوب البلاد إلى موسكو، بينما كان الحرس الوطني يهرع إلى حماية المؤسسات الحكومية الرئيسية في العاصمة، ويقطع عدداً من الجسور والطرق لتأخير مسيرة القافلة.
صحيح أن التمرد انتهى بتسوية بيلاروسية، تشبه كثيراً التسويات التي يصح فيها القول إنها من أجل إنقاذ ماء الوجه ليس إلا. لكن أسباب التمرد والصراع الدائر على السلطة في روسيا، لا تزال موجودة.
لعب يفغيني بريغوجين على حافة الهاوية، عندما قرر المضي في المواجهة مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري جيراسيموف حتى النهاية، ولو جر ذلك إلى مواجهة مع الرئيس فلاديمير بوتين. ووضع بريغوجين بتمرده الرئيس الروسي أمام خيارات ضيقة، فإما أن يختاره هو أو يختار خصميه، بعدما بدا أن لعبة إدارة النزاع بين المتخاصمين وصلت إلى طريق مسدود.
ربما اعتقد بوتين لوهلة، أن بريغوجين مهما استبد خلافه مع شويغو وجيراسيموف، لن يصل به الأمر إلى حدود إعلان التمرد والسيطرة على قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الروسي في روستوف وعلى مقاطعة فورونيج، والانطلاق من هناك إلى العاصمة. ولم يقف بريغوجين عند هذا الحد، بل اتهم بوتين بأنه لم يكن صادقاً عندما أعلن الحرب على أوكرانيا بحجة أن الأخيرة تشكل تهديداً لأمن روسيا. اجتاز الرجل كل الخطوط الحمر.
مخاطرة بريغوجين التي وضعت روسيا على شفا حرب أهلية، في وقت تشهد الحرب في أوكرانيا مرحلة صعبة جداً مع إطلاق كييف هجومها المضاد ومضاعفة الغرب مساعداته العسكرية والمالية لكييف، أضعفت بوتين وأوقعته في حرج كبير، وكان عليه أن يبتلع كبرياءه ويقبل بالعفو عن بريغوجين ومقاتليه بعد ساعات من توعدهم بمحاسبة قاسية واتهامهم بالخيانة.
وجد بوتين نفسه مضطراً للتراجع، كي يتفادى الأسوأ. أي نشوب حرب أهلية ستؤدي ربما إلى ما هو أكثر من خسارة الحرب في أوكرانيا. إن مصير روسيا الدولة النووية الكبرى، سيكون على المحك. ولهذا ليس الروس وحدهم من حبسوا أنفاسهم، بل معهم العالم أجمع.
كشف التمرد عن نقاط ضعف هائلة في بنية النظام في روسيا. بريغوجين الذي صنعه بوتين، يزحف بقواته إلى العاصمة بعدما فقد السيطرة عليه. وبريغوجين هو من صميم النظام وليس من خارجه. لكن صراعه مع شويغو وجيراسيموف تخطى الحدود، وإذا ببوتين يفقد السيطرة على الوضع ريثما أتت التسوية عبر الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو. هل تحرك لوكاشنكو من تلقائه أم أن ثمة من أوحى له بالتدخل في أعتى أزمة سياسية تواجه الرئيس الروسي منذ وصوله إلى الكرمين قبل 23 عاماً؟
لا مفر من جملة خلاصات، في مقدمتها أن الحرب لم تحدث تغييراً في أوكرانيا فحسب، بل إنها أحدثت تغييراً في روسيا أيضاً. ورغم صمود الاقتصاد الروسي إلى حد كبير في مواجهة العقوبات الغربية الكاسحة، فإن إطالة أمد الحرب وتصاعد الخسائر البشرية، يستدعيان تساؤلات من الروس العاديين حول آفاق المستقبل.
نعم، تجنبت روسيا حرباً أهلية، على الأقل في الوقت الحاضر، لكن إذا لم تعالج أسباب التمرد الذي حصل، فما الذي يضمن عدم حصول تمردات أخرى. من الآن فصاعداً السياسة التي اتبعها بوتين لم تعد صالحة في معالجة التحديات.
التمرد وضع النظام في روسيا أمام حقائق مرة. وإذا لم يتم التعامل مع هذه الحقائق، فلا شيء يضمن عدم نشوب أزمة أكبر.
سميح صعب- النهار العربي