هل تنتشل الفيدرالية لبنان من مأزقه؟

ليست الفدرالية طرحاً جديداً. حظي الخيار الفدرالي بتأييد مسيحي قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) وخلالها. إذ عرض الرئيس الأسبق كميل شمعون خطة مفصلة للبنان الفدرالي، كما قدمت “الجبهة اللبنانية”، التي مثلت حينها تطلعات الموارنة، مشروعاً فدرالياً خلال الحوار الوطني اللبناني في لوزان في 1984. وراودت الفدرالية بشير الجميل قبل طموحه الرئاسي وشعار 10452 كلم2. لكن الحرب الأهلية انتهت بتوقيع الأطراف المتناحرة وثيقة المصالحة الوطنية لعام 1989، المعروفة باتفاق الطائف، والتي أقرّت لامركزية إدارية بدلاً من الفدرالية.

“شيطنة” الفدرالية
اليوم، تُطرح الفدرالية مجدداً، لا سيما من أصوات مسيحية، بوصفها حلاً لسيطرة “الأغلبية” المسلمة على القرار والحكم. ويدعم أنصار الفدرالية حججهم من خلال الاستناد إلى أمثلة على قابلية تطبيق الفدرالية، مشيرين إلى الأنظمة السياسية في الولايات المتحدة وسويسرا والإمارات العربية المتحدة. يُعتبر هذا التمرين الذهني ممكناً من الناحية النظرية، ولكن قابلية تطبيقه من الناحية العملية هي موضع شكّ، لا سيما أن تطبيق النظام الفدرالي يرتبط أساساً بوجود دولة مركزية، وإلا قد لا يحقّق هذا النظام تفاهماً لدى المكونات اللبنانية، بل سيساهم في تباعدها وبالتالي يعزّز فرص تناحرها. هذا عدا قيود تطبيق الفدرالية، كالقيد الجغرافي والقانوني، بالإضافة إلى القيد الواقعي، وهو القيد الذي نتج عن التلاصق الجغرافي والاختلاط السكاني من طوائف مختلفة في المنطقة الواحدة واعتبارات المصاهرة وسواها، ما قد يُصعّب عملية التقسيم.

في هذا السياق، يُعرّف أستاذ العلوم السياسية هشام بو ناصيف لـ”المدن” الفدرالية على أنها “نظام سياسي صالح لإدارة شؤون مجتمع تعدّدي يضم مكونات وطوائف مختلفة، خصوصاً عندما تكون مجتمعاتها غير متجانسة، أي عندما تضمّ شخصيات وأحزاب متعددة”. ويشرح بو ناصيف، المدافع الشرس عن تطبيق الفدرالية في لبنان باعتبارها جزءًا من الحلّ لأزماته، أن التقسيم سيكون من خلال تفكيك ثم تركيب الخريطة اللبنانية على أساس الأقضية. (مرفق الخريطة).

خريطة الفدرالية:

-7 ولايات ذات غالبية مسيحية:

1- بشري، دير الأحمر، القاع. 2- زغرتا، بينو، القبيّات. 3- الكورة. 4- البترون، جبيل، كسروان. 5- المتن، بعبدا. 6- زحلة. 7- دير القمر، الدامور، جزين.

7 ولايات ذات غالبية مسلمة:

8- الشوف، عاليه (موحدون دروز). 9- حاصبيا، راشيا (موحدون دروز). 10- صيدا، إقليم الخروب (سنّة). 11- عكار، المنية، الضنية، طرابلس (سنّة). 12- عرسال، البقاع الغربي، العرقوب (سنّة). 13- بعلبك، الهرمل، شمسطار (شيعة). 14- النبطية، الزهراني، صور، بنت جبيل، مرجعيون، الخيام، سحمر (شيعة).

يرى بو ناصيف أنه بتطبيق الخريطة التي صمّمها نموذجاً للتقسيم الفدرالي، ستضع كل حزب أمام تحدّي الحكم، كما ستضعه بمحل المسؤولية، لا سيما فيما يتعلّق بالتفاصيل اليومية كتوفّر التيار الكهربائي والمياه وجمع النفايات وغيرها. “لماذا تلتقي الأحزاب على شيطنة الفدرالية؟” يتساءل بو ناصيف، مُشيراً إلى إصرار الأحزاب الحاكمة على عدم تطبيق الفدرالية أو اللامركزية في الطائف، وذلك من أجل البقاء على سياسة لوم الطرف الآخر، كسياسة “ما خلّونا” العونية، وفق بو ناصيف.

الحكم المحلي
أما الباحث فارس الحلبي فيرى أن “المشكلة ليست بحقوق الجماعات أو مكاسبها، إنما بسوء واقع الخدمات وانهيار المركز، وعليه التسمية غير مهمة إن كانت فدرالية، لامركزية أو لامركزية موسعة”. الأساس وفق الحلبي هو حكم محلي رشيد يقوم على مبدأي الشفافية والانتخاب، يكون الهدف منه تقديم الخدمات للناس وإدارة شؤونهم.

تفترض الفدرالية عدم المساس بثلاث ركائز أساسية، وهي السياسية الدفاعية والجيش، السياسة الخارجية والسياسة المالية، فهي ضمن مسؤوليات الدولة المركزية وفق النظام الفدرالي. يطرح هذا الافتراض سؤال أساسي حول هدف تطبيق الفدرالية في لبنان، لا سيما أن تلك الركائز هي أبرز نقاط الاختلاف الأساسية.

يُجيب بو ناصيف على السؤال معتبراً أن “الخلاف على السياسة الخارجية هو جزء من الصراع على السلطة، فإذا أعطت الفدرالية حصّة للجميع سيتقلّص الخلاف على السياسة الخارجية، مشدّداً على أن تطبيق الفدرالية يجب أن يقترن باتباع سياسة الحياد”. أما فيما يخص سلاح “حزب الله”، فاعتبر بو ناصيف أن “الفدرالية تُلزم الحزب بتسليم سلاحه، أما إذا أصرّ الأخير على الحفاظ عليه، يمكن تطوير النظام الفدرالي إلى كونفدرالي”، والاتحاد الكونفدرالي هو اتفاق مجموعة دول على مجموعة نقاط، مع حفاظ كل دولة على نظامها الخاص، وهو ما ينطبق على دول الاتحاد الأوروبي مثلاً.

الفدرالية حلّ لإشكالية سلاح “حزب الله”؟
لا شكّ أن الحديث المتجدّد عن الفدرالية وسبب تجاوب شرائح جديدة في المجتمع مع خطاب التقسيم، علا بالتزامن مع إمعان “حزب الله” بفرض نفوذه على الدولة. حتى باتت المطالبات بالتقسيم الفدرالي لا تنحصر بالخطاب المسيحي المتخوّف من الهيمنة الإسلامية على مراكز القرار وحسب، إنما بخطاب سنّي رافض للسيطرة الشيعية أيضاً. لكن السؤال، هل ستحلّ الفدرالية معضلة “حزب الله” وسلاحه؟

يرى عضو اللجنة التنفيذية في حزب “الكتلة الوطنية” ناجي أبو خليل أن “الفدرالية ليست حلّاً لإشكالية سلاح حزب الله في لبنان”، مُعتبراً أن المشكلة مرتبطة بالممارسة السياسية وغياب الدولة المركزية، “فالنظام الفدرالي مع الحكّام الحاليين سيعزّز نفوذ الأخيرين ويُحكم قبضتهم على مناطقهم”.

يرفض أبو خليل شيطنة الحديث عن أي نظام سياسي، لا سيما الفدرالية، لكنه يرى في حديثه مع “المدن” أن الأولويات اللبنانية مختلفة حالياً، و”الحاجة حالياً لمعالجة النظام الاقتصادي والاجتماعي وليس إلى علمنة النظام. كما أن التغيير الجذري للنظام في لبنان بحاجة إلى توافق داخلي وحماية خارجية غير متوفرين حالياً”. ويُضيف، “فرز اللبنانيين على أساس هوياتهم ومذاهبهم يُعزّز التنافس والتباعد بينهم، وقد يُشكّل هذا التقسيم خطر أمني وسياسي، هذا عدا أن التقسيم سيضع المسيحيين رهينة المنطق العددي”.

ما هو موقف الأحزاب المسيحية من الفدرالية؟
“الفدرالية مرفوضة”، هذا ما قاله رئيس “التيّار الوطني الحر” النائب جبران باسيل في ظهوره الإعلامي الأخير في برنامج “عشرين30” على قناة “أل بي سي آي”، مُعتبراً أنّ الفراغ الرئاسي سببه الدستور والتركيبة اللبنانية، علماً أن باسيل هو أحد أبرز السياسيين الذين يحمّلون النظام اللبناني وزر الفشل السياسي.

شدّدت مايا معلوف، مسؤولة الإعلام والتواصل في التيار، على ما قاله باسيل واعتبرت أن “التيار ليس ضد الفدرالية بالمطلق ولكن نظراً للظروف اللبنانية الراهنة وتوزّع المسيحيين على كل الأقضية اللبنانية، من الصعب تطبيق الفدرالية، لذلك نرى أن تبنّي نظام آخر كاللامركزية الإدارية والمالية الموسعة يُعتبر أجدى”.

من جهةٍ أخرى، اعتبر الياس ملكي، رئيس مكتب التسويق والإعلان في حزب “القوات اللبنانية” في حديثه مع “المدن”، أن “القوات” لا يملك موقفاً رسمياً من شكل النظام اللبناني، إنّما هو منفتح على كل الاحتمالات المتاحة من اللامركزية الإدارية الموسعة وصولاً إلى الفدرالية، “لا سيما أن النظام المركزي أثبت عدم أهليته لحلّ الأزمات اللبنانية”. كما شدّد ملكي على أن “النظام الفدرالي يُعتبر خياراً مثالياً للقوات على اعتبار أن لبنان بلد تعدّدي، إلا أنه نظراً لصعوبة التطبيق ومعارضة أطراف سياسية، نتّجه لتبنّي اللامركزية الموسّعة عبر تطبيق الطائف”.

أما المحامية لارا سعادة، وهي رئيسة جهاز التشريع في حزب “الكتائب”، تقول لـ”المدن” إن “الحزب لا يعارض النظام الفدرالي إلا أنه يتبنّى النظام اللامركزي منذ أن طرح رئيسه سامي الجميل مشروع قانون في آب 2016 وأنشأ الحزب لجنة ناقشت القانون وأقرّت 90% من بنوده”. شدّدت لارا على أهمية تبنّي النظام اللامركزي لا سيما أن تطبيقه لا يتطلّب تعديلات دستورية، بل إنه قانون يُقر بموافقة النصف زائد واحد، لا سيما أن أغلب الكتل النيابية موافقة عليه.

القيد الدستوري
ثمة قيود قانونية تحول دون طرح الفدرالية في لبنان، تتمثّل في الفقرة “ط” من مقدمة الدستور التي تنص على: “أرض لبنان، أرض واحدة لكلّ اللبنانيين، فلكلّ لبناني الحق في الإقامة على أيّ جزء منها والتمتّع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين”. كما أن المادة الأولى من الدستور تؤكّد أن لبنان وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة، ما يمنع بشكل أو بآخر التداول في أي طرح يتنافى مع الوحدوية. في هذا السياق، يؤكّد المحامي فاروق المغربي لـ”المدن” أن “تعارض النظام الفدرالي مع الدستور اللبناني يمكن تجنّبه بتطبيق اتفاق الطائف، الذي يُعتبر تعديلاً للدستور”. وذلك عبر اعتماد اللامركزية الإدارية أو اللامركزية المشدّدة (وهو نظام أشد من اللامركزية الإدارية وأقل من الفدرالية)، وبجميع الحالات “يُضمن إنماء متوازناً بين المناطق عبر إعطاء البلديات سلطة موسّعة”، وفق المغربي. وإلى ذلك الحين، يبقى طرح الفدرالية هرباً من الأزمة الأساسية وهي غياب الدولة المركزية.

ميريام سويدان- المدن

مقالات ذات صلة