شراكة مصيرية مع إيران: على جسد لبنان تستمتع روسيا والحزب بزواج مديد!
بهدوء تسلّلت روسيا إلى دهاليز الشرق الأوسط، لا بهدف زيارته بل ركوبه. وفيما ينشغل العالم بغزو أوكرانيا، بل وغزو “فاغنر” لروسيا، يتعثّر الشريك العجوز على عكازته، راكضاً خلف شراكة مصيرية مع إيران. وتستمر روسيا في التغلغل خلسةً وعلناً على خط يمتد من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق وبغداد والقدس.
يعكس عمق العلاقة بين الدولتين التماثل البنيوي في النموذج السياسي الإمبراطوري للدولة والاقتصاد الأوليغارشي المحسوبي الفاسد. ويستمتع الطرفان بزواج يتمازج فيه التواطؤ السياسي والعصبية العقائدية مع الاقتصاد الأسود.
يتجلّى هذا التزاوج في علاقة روسيا مع “حزب الله”، ليصبح الحزب منصّة حيوية لروسيا لملء الفراغ الإقليمي الناجم عن العطالة الغربية. ذلك أنّ مأثرة إيران في لبنان تتجلّى في نجاح “حزب الله” في نخر الدولة الوطنية المستهدفة، وتفكيك شرعيتها وبنيتها.
في معادلة كهذه، لا يعود مصير الدولة والمجتمع رهناً بنجاح المشروع التنموي، بل يصبح رهناً بمدى استسلام الدولة لدورها، كحاضن للاقتصاد الأسود، في خدمة ذلك الطفيلي الذي يقتات على جسدها.
وإذ يشكّل “حزب الله” في لبنان، التمثيل الأرقى لهذه الاستراتيجية، تجد روسيا الكثير مما تتعلّمه. ذلك أنّ تكتيكات الحرب اللامتناظرة للحزب صارت نموذجاً لتكتيكات التسلّل والاختراق وبناء النفوذ في عيون “فاغنر” في سوريا وأفريقيا.
وبغض النظر عن المرآة الديبلوماسية، فإنّ من المثير أن نتأمل ولع روسيا الغريزي بـ”حزب الله”، إذ تشطح روسيا بعيداً في تعاملها مع الحزب، بما يتجاوز كثيراً سيادة الدولة اللبنانية، كحليف وكشريك بديل من الدولة اللبنانية.
لم يكن داء كوفيد ولا انفجار الميناء ولا انهيار الليرة اللبنانية ولا انهيار المصارف إلى حضيضها الراهن، الاّ فرصة لمزيد من فتح شهية الحزب، لملء الفراغ وتعطيل الحكومة والدولة، وليوطد تآزره مع روسيا.
فعندما أغلقت المصارف التقليدية أبوابها وجمّدت الحسابات بالدولار، كانت فرصة ذهبية لـ”دولة الحزب”، لفرض نظامها المصرفي الموازي “جمعية القرض الحسن”. واحتلت مؤسساته الاقتصادية موقع الإدارة الموازية والشرعية البديلة لشرعية الدولة. ولم تعد جمعيات “القرض الحسن” و”الجهاد الزراعي” و”جهاد البناء” التابعة لـ”حزب الله”، أدوات لتوزيع السلع المهرّبة من إيران وسوريا فحسب، بل صارت هي الأدوات المالية والهندسية والخدمية للدعم اللوجستي والعسكري، وتعزيز البني التحتية من أنفاق ومرافق قتالية. إذ لم يعد “حزب الله” دولة داخل الدولة، بل صار عملياً بالنسبة إلى روسيا هو الدولة، لتصبح المؤسسات الرسمية فريسة يتسلّى الحزب بالتهامها قطعة، قطعة.
وبذلك، كان لدى روسيا الكثير مما تتعاون به مع “حزب الله”، سواء في استثمار رخاوة الدولة الديموقراطية المستهدفة لتفكيكها، أم في اختراق الدولة بمافيات أمراء الحرب “الثوريين” و”العقائديين”. وكما في لبنان، استخدمت روسيا الميليشيات الشيشانية وميليشيات “فاغنر” والأموال الأوليغارشية للدولة الفاسدة من أجل حماية واختراق، ليس منظومة الاقتصاد الغربي والنخب السياسية في أوروبا وأميركا فحسب، بل وبنية الدولة الروسية ذاتها.
لكن روسيا ليست هي الطرف الوحيد الذي يتعلّم من “حزب الله”، بل لقد استفاد الحزب إلى أبعد الحدود من العمل الميداني مع العسكرية الروسية.
فحتى فترة قريبة، اتبع “حزب الله” استراتيجية دفاعية تقوم على الاستنزاف في أعماله العدائية، في ما سمّاه الاستراتيجيون العسكريون نهج “عدم الخسارة”. يقوم هذا المبدأ على خطط اشتباك الطويلة الأمد. لكن “حزب الله” يتحوّل بسرعة إلى الاستراتيجية الهجومية لحرب العصابات.
بدأت روسيا تقديم الدعم العسكري والمالي لـ “حزب الله” منذ 1985، وفي حرب 2006 تشكّل مركز استخباري سوري- روسي مع الحزب، ثم وقّع الطرفان في 2008 اتفاقية للتعاون، وفي 2013 بدأ التنسيق العملياتي في سوريا، عبر غرف عمليات في اللاذقية ودمشق، وتجلّى التعاون في معركة حلب، ثم في درعا 2018، وإدلب 2019، ليقول نصر الله لتلفزيون “المنار”، إنّ “موسكو تلعب دوراً إيجابياً ستنتج منه نتيجة إيجابية إن شاء الله”.
بل إنّ الحزب بالنسبة إلى روسيا هو البديل للدولة الوطنية على الجغرافيا اللبنانية. ويظهر ذلك من خلال التعاون التقني والاقتصادي في الإدارة المشتركة لاقتصاد الظلّ والعلن، إذ موّلت روسيا مشاريع استراتيجية مهمّة للنشاط العسكري للطرفين، بدءاً بالعمل المشترك لبناء مرفأ الحزب في طرابلس، إلى الطريق السريع الذي يربط لبنان بسوريا إلخ… وبعد الحرب الأوكرانية، مضى التعاون الروسي الاقتصادي مع المنظومة المالية للحزب أبعد، ليصير قناة حيوية لروسيا لتجاوز العقوبات الغربية والوصول إلى أسواق جديدة، مقابل تأمين الأسلحة والتكنولوجيا الروسية للحزب.
نعم، من رَحَم “الصراع” ضدّ إسرائيل، والصراع في سوريا، ومن رَحَم الغزو الروسي لأوكرانيا، ولد وترعرع هذا التحالف العضوي الطفيلي. إذ قاتلت وتقاتل القوات الروسية وقوات “حزب الله” جنباً إلى جنب.
لم تقتصر العلاقة التكاملية على الجهد الحربي، بل توسعت لتشمل التهرّب من العقوبات. وفي 2018 تمّ الكشف عن مخطّطات معقّدة لتهرّب إيران من العقوبات، عبر منظومة تجارية يديرها “حزب الله” و”فيلق القدس”، تعتمد على تحويل الأموال إلى الشركات الروسية. وفي 2021، أرسل “حزب الله” علناً وفداً إلى موسكو، التقى وزير الخارجية والدوما، والتقى بالطبع، السفير الإيراني.
لكن الأهم في ذلك، كان تلك المحادثات مع بوغدانوف. فبعدها أصبح ممثلو الحزب، المرافقين الدائمين للوفود الروسية في بيروت. وفي 2022 عام غزو أوكرانيا، تشابكت العلاقات بينهما إلى مستويات عليا في الدولة والاستخبارات الروسية، لتشمل شركة “روزنفت” الروسية الضخمة. ويا للدهشة، فخلال عملية تفاوض الحزب لإعادة بناء مصفاة الزهراني التي يسيطر عليها مع الشركات الروسية بمبلغ يزيد على المليار دولار، اقتضت الضرورات حضور بعض المسؤولين اللبنانيين لخدمة صفقة “الحزب”.
سرعان ما صارت العلاقة بين الدولة الروسية العظمى و”دولة” الحزب علنية تماماً. وذلك منذ زار رجل “حزب الله” – المقلد – موسكو في آذار (مارس) 2023، تباحث مع بوغدانوف ونائب وزير الدفاع ألكسندر فومين حول تعزيز المشاريع الاقتصادية والاستثمارية الروسية مع “دولة” الحزب.
ليس هذا سوى غيض من فيض التحالف مع الحزب الذي يوفّر لروسيا إمكان الغطاء والمطال، ذلك أنّ مصالحهما لا تتنافر، بل تتآزر بعمق. وإذ تستفيق أميركا على هذا الواقع، فإنّها، كعادتها، تأتي متأخّرة، لتحاول مرة أخرى ومن جديد، ترميم شراكاتها أمام التهديدات المتحوّلة. كل ذلك صار معلّقاً بخيط بوتين، ويا له من خيط واهٍ.
سمير التقي- النهار