هل يخشى الغرب استخدام روسيا أسلحتها النووية أم يدفعها لذلك؟
على رغم أن الاضطرابات الداخلية الروسية الأخيرة عقب تمرد “فاغنر” تظهر تصدعات في سلطة الرئيس فلاديمير بوتين وقد تؤثر في القدرات العسكرية لموسكو في أوكرانيا بحسب وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إلا أن الأميركيين لم يخفوا قلقهم من أن أي صراع في روسيا يمكن أن يحمل مخاطر هائلة نظراً لامتلاكها ما يقترب من 6000 سلاح نووي يمكن أن تقع في الأيدي الخطأ، أو تضطر البعض لاستخدامها في أوكرانيا، بخاصة أن بوتين وعدداً من الصقور في موسكو هددوا مراراً باستخدامها، ومع ذلك، يعتقد البعض أن الولايات المتحدة والغرب يعملون على استفزاز روسيا بدعمهم المستمر لكييف وتجاوز ما تعتبره روسيا خطوطاً حمراء، ما قد يدفع موسكو لاستخدام الأسلحة النووية، فما حقيقة ذلك؟ وهل يمكن أن تذهب روسيا لهذا الخيار فتنزع عن أميركا لقب المستخدم الوحيد للسلاح النووي في العالم؟
علامات الخطر
حتى قبل أن تستشعر الولايات المتحدة والدول الغربية خطر انزلاق أكبر دولة تمتلك أسلحة نووية في العالم إلى انقسام وصراع عنيف عقب تمرد جماعة “فاغنر”، كانت مخاطر انتشار أسلحة نووية خارج روسياً أمراً واقعاً مع إعلان رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو، الأسبوع الماضي، أن بلاده استلمت أسلحة نووية تكتيكية روسية، تزيد قوتها ثلاث مرات عن القنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة على هيروشيما وناغازاكي في عام 1945، في أول تحرك خارج روسيا لهذه الرؤوس الحربية الأقصر مدى والأقل قوة والتي يمكن استخدامها في ساحة المعركة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991.
ويبدو أن واشنطن والعواصم الغربية في أوروبا أخذت هذا التحرك على محمل الجد، لأن نشر الأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروس التي يبلغ طول حدودها مع أوكرانيا 1084 كيلومتراً، سيسمح للطائرات والصواريخ الروسية بالوصول إلى الأهداف المحتملة هناك بسهولة وبسرعة أكبر إذا قررت موسكو استخدامها، كما أنه يوسع من قدرة روسيا على استهداف العديد من أعضاء “الناتو” في شرق ووسط أوروبا، في وقت بدأت كييف شنّ هجوم مضاد لاستعادة الأراضي التي سيطرت عليها روسيا داخل أوكرانيا.
انتشار مماثل
وعلى رغم أن المسؤولين في أوكرانيا اعتبروا أن بوتين يستخدم الابتزاز النووي في محاولة للتأثير في الوضع في ساحة المعركة وإجبار الشركاء الغربيين على خفض إمدادات الأسلحة والمعدات تحت تهديد التصعيد النووي، إلا أن الرئيس الأميركي جو بايدن وصف تهديد الرئيس الروسي باستخدام أسلحة نووية تكتيكية بأنه حقيقي، في وقت تعتقد الحكومة الأميركية أن روسيا تمتلك نحو 2000 من هذه الأسلحة، من بينها قنابل يمكن حملها بالطائرات ورؤوس حربية للصواريخ قصيرة المدى وطلقات مدفعية.
لكن بالنسبة للرئيس بوتين فإن الدافع لنشر الأسلحة النووية التكتيكية الروسية في بيلاروس يعود إلى قرار حكومة المملكة المتحدة تزويد أوكرانيا بقذائف خارقة للدروع تحتوي على اليورانيوم المنضّب، وهو لا يرى أنه يفعل شيئاً مختلفاً عما فعلته الولايات المتحدة لعقود من خلال وضع أسلحتها النووية في بلجيكا وألمانيا وإيطاليا وهولندا وتركيا قائلاً إن الخطوة الروسية لا تنتهك معاهدة دولية تحظر انتشار الأسلحة النووية.
قلق النخبة الروسية
وخلال الشهر الماضي، تزايد القلق في صفوف النخبة الروسية بشأن جمود ما تسميه موسكو “العملية العسكرية الخاصة”، والتي تزامنت مع هجمات طائرات “الدرون” التي ضربت أغنى أحياء موسكو ما شكل نقطة تحول قاتمة، كونها الهجمات الأولى ضد المدنيين الروس منذ بدء الحرب، كما أنها كانت أهم توغل في الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية، ما جعل الصقور الراغبين في التصعيد يشعرون بالقلق من أن روسيا تخسر الحرب، أو على الأقل لا تحقق النصر الموعود، ولذلك تجددت الدعوات من أجل الاستخدام الواضح لسلاح نووي لإجبار الغرب على قطع إمداد أوكرانيا بالأسلحة، وذلك في اجتماع عقد يوم 20 مايو (أيار) لمجلس السياسة الخارجية والأمنية، وهو تجمع مؤثر للمسؤولين ومراكز الفكر في موسكو بحسب بيتر روتلاند أستاذ السياسة والحكم بجامعة “ويسليان” والخبير في مركز “ديفيس” للدراسات الروسية والأوروبية – الآسيوية بجامعة “هارفارد”.
ومن بين من اقترحوا استخدام السلاح النووي سيرغي كاراغانوف رئيس المجلس الذي كتب مقالاً، نشره يوم 14 يونيو (حزيران)، دعا فيه إلى إجبار الغرب على الاستسلام عبر استخدام الأسلحة النووية لإنقاذ البشرية من كارثة عالمية، وجادل كاراغانوف بأنه، حتى لو انتصرت روسيا في ساحة المعركة، فإنها ستواجه تمرداً في الأجزاء التي تحتلها من أوكرانيا، وأن الطريقة الوحيدة لسحق المقاومة ستكون وقف تدفق الدعم من الغرب، وخلص بشكل قاتم إلى أن الورقة الرابحة لروسيا هي استعدادها لاستخدام سلاح نووي تكتيكي لاستعادة مصداقية الردع النووي معتقداً أن خطر التصعيد منخفض لأن الولايات المتحدة لن تكون على استعداد للتضحية بـمدينة بوسطن من أجل مدينة في أوكرانيا أو بولندا.
من الحذر إلى التصعيد
ومنذ بداية حرب أوكرانيا قبل نحو 16 شهراً، أوضح القادة الروس أنهم على استعداد لأن يكونوا أول دولة تستخدم الأسلحة النووية بعد أميركا في الحرب العالمية الثانية إذا رأوا تهديداً وجودياً لروسيا، ورداً على ذلك، أوضحت الولايات المتحدة منذ البداية أنها لن ترسل قوات مقاتلة تابعة لـ “الناتو” إلى أوكرانيا، ورفضت تنفيذ منطقة حظر الطيران التي طلبها الرئيس فولوديمير زيلينسكي في الأيام الأولى للحرب، وفي المقابل، امتنعت روسيا عن شن هجمات على مستودعات السلاح والذخيرة في بولندا التي تتدفق منها إلى أوكرانيا، وضغطت الولايات المتحدة على أوكرانيا لمنعها من مهاجمة أهداف داخل الاتحاد الروسي، وعلى سبيل المثال، أرسلت الولايات المتحدة لأوكرانيا المدفعية الصاروخية “هيمارس” بمدى 80 كيلومتراً، لكنها رفضت إرسال البديل بمدى 300 كيلومتر، ولذا كان الخوف من التصعيد النووي يكبح الطرفين.
ومع ذلك، عندما بدأت روسيا، هذا العام، في سحب مراكز القيادة واللوجستيات خلف خط المواجهة، احتاجت أوكرانيا إلى أسلحة بعيدة المدى لضرب تلك الأهداف، وبدأت واشنطن، في فبراير (شباط) الماضي، في إرسال قنابل يمكن أن تصيب أهدافاً على بعد 150 كيلومتراً، وقبل أسابيع قليلة، أعلنت المملكة المتحدة أنها ستزود أوكرانيا بصواريخ “كروز ستورم شادو” التي يصل مداها إلى 250 كيلومتراً، ما جعل هذا التصعيد في مدى وقوة الأسلحة المسلمة إلى أوكرانيا هو أحد أسباب عودة بعض القادة الروس إلى التهديدات النووية، فضلاً عن موجة الهجمات التي شنتها أوكرانيا في الأسابيع الأخيرة على مجموعة متنوعة من الأهداف داخل روسيا، ولا سيما هجمات “الدرون” في موسكو واستهداف مستودعات الوقود والمطارات التي تنطلق منها الطائرات القاذفة.
وعلاوة على ذلك، أشار مقال في صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن الضغط يتزايد على بايدن للإعلان عن جدول زمني لعضوية أوكرانيا في “الناتو” خلال قمة دول الحلف التي ستعقد في فيلنيوس، الشهر المقبل، وهو أمر يمكن أن يمنح الرئيس بوتين حافزاً أكبر لمواصلة الحرب، أو تصعيدها بحسب المفكر السياسي نعوم تشومسكي الذي يستند في تعليقه إلى أن موسكو رفضت عضوية أوكرانيا في الحلف الأطلسي منذ البداية واعتبرت أنها تشكل تهديداً وجودياً.
حافة الهاوية
وبينما تبدو واشنطن قلقة من سياسة حافة الهاوية التي ترى أن بوتين ينتهجها، واعتراف الرئيس جو بايدن، في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2022، بأنه، وللمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، يوجد تهديد مباشر باستخدام الأسلحة النووية، إلا أن بقية الساسة ومسؤولي الاستخبارات الأميركية والمراقبين منقسمون حول مدى جدية التعامل مع التهديدات النووية الروسية، وعلى سبيل المثال، قالت أفريل هينز مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية، أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ، إن قوة بوتين العسكرية التقليدية الضعيفة ستجعل الرئيس الروسي أكثر اعتماداً على الخيارات غير المتكافئة للردع، بما في ذلك القدرات النووية، لكنها استبعدت أن يفعل ذلك، وهو ما اتفق عليه الفريق سكوت بيرييه مدير وكالة استخبارات الدفاع.
في المقابل، اعتبرت أستاذة العلوم السياسية في جامعة “سيتي” في نيويورك سينثيا روبرتس أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يوضح التناقض الروسي بين الاستقرار وعدم الاستقرار للانخراط في الاستفزازات والقتال، بينما جادل الجنرال الأميركي المتقاعد والملحق العسكري السابق في موسكو كيفين رايان بأن بوتين كان يهيئ الظروف للاستخدام النووي منذ بداية الحرب وهو مستعد لاستخدام سلاح نووي متى قرر ذلك.
عزم أكيد
ويرى الجنرال رايان أن الطريقة الوحيدة التي يمكن لروسيا من خلالها مواجهة التصعيد بالتصعيد هي إدخال الأسلحة النووية، مشيراً إلى أن هناك أدلة قوية على عزم بوتين استخدام سلاح نووي تكتيكي في حربه بأوكرانيا، منها قراراته بتعديل قيادته العسكرية، إذ أصبح الجنرالات الثلاثة المسؤولون عن استخدام الأسلحة النووية التكتيكية يقودون الآن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، كما أن لدى بوتين بالفعل أسباباً تكتيكية أخرى مثل إنقاذ حياة الجنود الروس، وتقصير أمد الحرب، وتدمير القوات الأوكرانية، وفضلاً عن ذلك لديه أيضاً أسباب استراتيجية، مثل تجديد القيمة الرادعة لترسانته النووية وإثبات أنه ليس مخادعاً، بخاصة أنه أشار مراراً إلى الضربات النووية الأميركية على هيروشيما وناغازاكي وساوى الأهداف الأميركية آنذاك لإنقاذ أرواح الجنود وتقصير أمد الحرب، بالأهداف الروسية الآن.
ويوضح الجنرال كيفين رايان الذي يعمل كخبير في مركز “بيلفر” للعلوم والشؤون الدولية التابع لكلية “هارفارد كينيدي” أن بوتين اتخذ في بداية هذا العام خطوات علنية لإثبات أنه لا يخادع بشأن استخدام الأسلحة النووية، وفي فبراير وقع قانوناً يعلق مشاركة روسيا في معاهدة الأسلحة النووية الاستراتيجية، “نيو ستارت”، وهي خطوة أنهت رسمياً عمليات التفتيش المشتركة لمواقع الأسلحة النووية الأميركية والروسية وأعفت روسيا من الالتزام بالحد من عدد أسلحتها النووية الاستراتيجية على رغم وعد روسيا بالقيام بذلك.
وفي النهاية، قد يكون استخدام الأسلحة النووية أكثر خطورة على النظام الدولي، إذ ستُمحى الصورة التي يحملها كثيرون من الناس عن الأسلحة النووية كأسلحة تنهي الحضارة، وبدلاً من ذلك، ستكون هذه الأسلحة وكأنها أمر طبيعي يمكن أن يتقبله الناس في وقت الحرب على رغم كونها مأساوية، وفي هذا العالم المتغير بشكل كبير، قد يقع العبء على عاتق روسيا والغرب في آن واحد لأنهما فشلا في التنسيق وضبط النفس التي كانت سمة رئيسة خلال أحلك فترات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
اندبندنت