قائد فاغنر “المتهوّر”,,, يوّفر لخصومه فرصة سحقه!

سمح النزاع في أوكرانيا لقائد مجموعة فاغنر المسلحة يفغيني بريغوجين بفرض نفسه لاعبا أساسيا في روسيا، لكن بدعوته إلى التمرد ضد القيادة العسكرية تجاوز هذا الرجل المتهور الذي يصعب التنبؤ بتحركاته، خط اللاعودة.

بهذه الخطوة أخرج زعيم فاغنر نفسه من دائرة الرئيس فلاديمير بوتين إلى دائرة الخصوم، وهو يعرف أن بوتين حاسم ولا يتأثر بالعواطف والحسابات الشخصية، وهذا أحد أسرار نجاحه إلى حد الآن في أوكرانيا وقبلها في سوريا.

وصارت فاغنر المجموعة الأمنية الأكثر شهرة واستقطابا للأضواء، ومرد هذا أنها خليط من جيش واستخبارات ومهمات قذرة، ما يجعلها عنصرا ضاربا في يد بوتين، حيث أخذت أفضل وأخطر ما راكمته شركات الأمن الخاصة الأميركية مثل بلاك ووتر وطوعته، واستفادت من خبرات الاستخبارات الروسية.

واتهم الملياردير حليق الرأس الجمعة الجيش الروسي بقصف معسكرات مجموعة فاغنر بطلب من وزير الدفاع سيرغي شويغو الذي أقسم أن “يوقفه” بالقوة. ويؤكد بريغوجين البالغ 62 عاما أن لديه 25 ألف مقاتل يتبعون أوامره وقد دعا الجيش والمواطنين الروس إلى الانضمام إليه نافيا أن يكون أقدم على “انقلاب عسكري”.

وردا على ذلك، باشرت الأجهزة الأمنية الروسية النافذة جدا تحقيقا في حقه بتهمة “الدعوة إلى تمرد مسلح” وهي تهمة خطرة يمكن أن تدخله السجن لفترة طويلة. لكن ما من شيء مضمون عندما يتعلق الأمر ببريغوجين المتمرس في فن الاستفزاز وتغيير المواقف.

وتقول المحللة الروسية المستقلة تاتيانا ستانوفايا “يبقى معرفة ما سيحدث” معتبرة أن السلطات تسعى “ربما إلى إخراج بريغوجين من اللعبة بمشاركة نشطة من هذا الأخير”. وتضيف “بالنسبة إلى جهاز الأمن الفيدرالي وهيئة الأركان ما يحصل يناسبها تماما. على أقل تقدير، سيتعرض بريغوجين لضربة”.

دائرة الضوء
بدا أن النزاع في أوكرانيا وفّر فرصة من ذهب لرجل الأعمال للخروج إلى دائرة الضوء بعدما عمل لسنوات في الظل، ليفرض نفسه لاعبا أساسيا في روسيا.

ففي مايو 2023 بعد معارك شرسة ودامية، وصل بريغوجين إلى القمة بإعلانه سيطرة فاغنر على باخموت في شرق أوكرانيا محتفيا بانتصار نادر للقوات الروسية على أرض المعركة.

لكن خلال هذه المعركة أيضا تفاقم التوتر مع هيئة أركان الجيش الروسي. فبريغوجين يتهم الهيئة بحرمان فاغنر من الذخائر ويكثر من اللقطات المصورة التي يشتم فيها القادة العسكريين الروس.

وهذا أمر لا يمكن تصوره من أيّ شخص آخر في روسيا التي تشهد قمعا شاملا.

وبدأ بريغوجين يظهر إلى دائرة الضوء في سبتمبر الماضي بالتزامن مع تكبد الجيش الروسي هزيمة تلو الأخرى في أوكرانيا ما شكل انتكاسة لقارعي طبول الحرب على غراره.

وأكد يومها للمرة الأولى علنا أنه أسس في 2014 مجموعة فاغنر المسلحة الناشطة في أوكرانيا وسوريا وأفريقيا كذلك. وفرض نفسه قائدا أساسيا.

وشدد على أن “هؤلاء الشباب الأبطال دافعوا عن الشعب السوري وشعوب دول عربية أخرى وعن الفقراء الأفارقة والأميركيين اللاتينيين وأصبحوا إحدى ركائز وطننا”.

في أكتوبر ذهب أبعد من ذلك عندما دشن بحفاوة مقر “شركة فاغنر العسكرية الخاصة” في مبنى زجاجي في مدينة سان بطرسبرغ في شمال غرب روسيا.

ملياردير
ولكي يبني جيشا على قدر طموحاته، راح بريغوجين المولود كما بوتين في سان بطرسبرغ، يجند الآلاف من السجناء ليقاتلوا في أوكرانيا في مقابل العفو عنهم.

ويعرف بريغوجين أوساط السجون جيدا فقد أمضى تسع سنوات في السجن في الحقبة السوفياتية لارتكابه جرائم. وخرج من السجن العام 1990 عندما كان الاتحاد السوفياتي على شفير الانهيار وأسس شركة ناجحة لبيع النقانق. وارتقى السلم بعد ذلك وصولا إلى فتح مطعم فخم أصبح من أهم مطاعم سان بطرسبرغ، حين كان نجم بوتين يصعد.

بعد وصول فلاديمير بوتين إلى سدة الرئاسة في العام 2000 راحت مجموعة بريغوجين توفر خدمات طعام للكرملين فلقب بـ“طباخ بوتين” وقيل إنه حقق المليارات بفضل عقود عامة. ويبدو أنه استخدم هذه الأموال لتأسيس مجموعة فاغنر وهي بمثابة جيش خاص ضم في صفوفه أولا مقاتلين قدامى أصحاب خبرة من الجيش وأجهزة الاستخبارات الروسية.

في 2018، حين كانت هذه المجموعة قد لفتت الأنظار في أوكرانيا وسوريا وليبيا، بدأت تسري معلومات عن انتشارها في أفريقيا أيضا. وقد قتل ثلاثة صحافيين روس كانوا يجرون تحقيقا حول هذه المجموعة في جمهورية أفريقيا الوسطى.

وكان رئيس مجموعة فاغنر شبه العسكرية يفغيني بريغوجين يحرص في ما مضى على البقاء في الظل قبل أن يصير أحد أشهر وجوه الحرب، وجعل من مرتزقته قوة قتالية يؤكد أنّها أكثر فاعلية من الجيش الذي يكيل له الانتقادات. وبات رجل الأعمال البالغ من العمر 61 عاما والذي جمع ثروته في قطاع المطاعم، يطرح نفسه حاليا كقائد حربي.

سيد الاستفزاز
نشر بريغوجين سيد الاستفزاز في فبراير مقطعا مصورا يظهره في طائرة حربية يقترح على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تقرير مصير باخموت خلال منازلة جوية.

وقال الرجل مربوع القامة، حليق الرأس متوجها إلى الرئيس الأوكراني من قمرة قيادة قاذفة روسية من طراز سوخوي 24 ”إذا أردت نلتقي في السماء. إذا سيطرت طائرتك، تستعيد باخموت التي تهاجمها القوات الروسية”.

وعلى عكس الجنرالات الروس المعروفين بأنهم بعيدون عن الميدان ولا يكترثون لرفاهية قواتهم، ينخرط بريغوجين مع رجاله ويوزع عليهم الأوسمة ويمازحهم.

“لا تفرطوا في الشرب ولا تتعاطوا المخدرات ولا تغتصبوا أحدا”، هذا ما قاله هذا المدان السابق لمجموعة من السجناء في ما يشبه عملية إعادة تأهيل اجتماعي مقتضبة عند العفو عنهم. ولا يتوانى عن إظهار البعض من الوحشية، فعندما انتشر مقطع فيديو يظهر إعدام أحد الفارين بمطرقة ثقيلة، أشاد بريغوجين بقتل الرجل الذي نعته بأنه “كلب”.

ولكن حضوره المتزايد وانتقاداته للجيش يثيران استياء في موسكو. وبرز التوتر الشهر الماضي عندما أعلن بريغوجين وهيئة الأركان بشكل منفصل السيطرة على سوليدار بالقرب من باخموت. وهاجم حينها “أولئك الذين يسعون باستمرار لسرقة انتصاراتنا”.

بريغوجين أم قديروف

تمرد بريغوجين سيوفر فرصة لأحد أبرز داعمي بوتين لأخذ مكانه في الدائرة المضيقة للرئيس الروسي، وهو الرئيس الشيشاني رمضان قديروف الذي أعلن عن إرسال وحدات من بلاده إلى “مناطق التوتر” في روسيا بعد التمرد الذي أطلقته مجموعة فاغنر.

وقال قديروف عبر تطبيق تلغرام إن “مقاتلين من وزارة الدفاع والحرس الوطني لجمهورية الشيشان غادروا إلى مناطق التوتر.. يجب إنهاء التمرد، وفي حال كانت إجراءات قاسية مطلوبة، فنحن مستعدون لذلك”.

ويعتقد متابعون أن قوات قديروف قد يكون لها دور فاصل في هزيمة بريغوجين بسبب الخبرات الميدانية التي امتلكتها في حرب الشيشان، وخاصة في حرب العصابات والمواجهات الميدانية، وهي النقطة التي تتفوق فيها فاغنر على الجيش الروسي، لكنها قد تمهد لنهايتها فيما لو اصطدمت بالمقاتلين الشيشانيين.

تجنيد السجناء
مع استمرار أمد الحرب في أوكرانيا، فسحت روسيا الطريق أمام فاغنر لتلعب دورا أكبر على الأرض، وهو ما زاد من حاجة المجموعة إلى توسيع قاعدة مقاتليها الذين يتحدرون في الغالب من خلفية غير عسكرية، وأكثرهم من خريجي السجون. ومنذ أشهر، تحدث تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” عن لقطات مسرّبة أظهرت مؤسس مجموعة فاغنر وهو يحاول تجنيد سجناء للقتال في أوكرانيا.

وبيّنت الهيئة، أنها تمكنت من التحقق من الفيديو، ويمكن مشاهدة بريغوجين وهو يخاطب مجموعة كبيرة من السجناء قائلا لهم إن “الفترات المحكوم بها عليهم يمكن تخفيفها في مقابل الانضمام إلى الخدمة في صفوف مجموعة فاغنر”.

وفي الفيديو يؤكد بريغوجين أن “أحدا لن يعود وراء أسوار السجن” إذا انضم إلى صفوف مجموعة فاغنر، وخاطب السجناء قائلا “إذا خدمت ستة أشهر في صفوف فاغنر، فأنت حر”. لكنه في الوقت ذاته يحذر المجندين المحتملين من مغبة الهروب من الخدمة قائلا “إذا وصلت إلى أوكرانيا وقرّرت أنك لست معنيا بالأمر، فستواجه الإعدام ميدانيا”.

كما أبلغ بريغوجين مستمعيه من السجناء بقواعد وأحكام مجموعة فاغنر التي تحظر تناول الكحول وتعاطي المخدرات و”الاتصال الجنسي بالنساء المحليات وبالرجال وبالحيوانات والنباتات – وبأيّ شيء”.

وألمح بريغوجين، خلال حديثه للسجناء، إلى ما تواجهه روسيا من صعوبات في حربها في أوكرانيا، حيث قال إن “هذه حرب صعبة، أصعب حتى من حرب الشيشان ومن حروب أخرى”. ونقل التقرير عن مصادر أن الشخص المتحدث في الفيديو هو بريغوجين، وقال أحد تلك المصادر “هذا هو صوته. هذه رنة الصوت، وتلك لزماته في الحديث.. أنا واثق بنسبة 95 في المئة، أن هذا هو (بريغوجين) وأن الفيديو لم يخضع للمونتاج”.

وامتنعت شركة “كونكورد”، التي يمتلكها بريغوجين، عن إنكار أنه هو الشخص الذي يظهر في الفيديو، لكنها أشارت إلى تشابه “هائل” بين بريغوجين والشخص الذي يظهر في الفيديو.

طباخ الرئيس، الذي انقلب على الرئيس، فمن يهزم الآخر

العرب

مقالات ذات صلة