لودريان و«الغموض البنّاء»: من سيفكك الغاز هذه الزيارة … ومراميها؟

قد تكون من الحالات القليلة أن تؤدي مهمة أيّ موفَد دولي غاياتها، قبل ان تنتهي ولو بساعات قليلة. فقد أوحى ما تَسرّب من نتائج اللقاءات التي أجراها الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في بيروت، بأنها من هذا الصنف النادر لمجرد ان يعلن الخصوم انهم ممن فازوا جميعهم بالمباراة الفرنسية المفتوحة من دون اي يقين يؤدي الى فهم ما ينتظرهم. وعليه طرح السؤال من سيفكك الغاز هذه الزيارة ومراميها؟

بعد ثلاثة أيام على بدء مهمة لودريان وقبل ساعات قليلة على نهايتها، أجمعَ المراقبون الذين اطلعوا على كثير من المعلومات التي تسرّبت من لقاءاته المتعددة بنجاح الديبلوماسية الفرنسية في الحفاظ على أعلى نسبة من السرية عمّا أُريد من المهمة من دون الكشف المبكر عن المراحل التي تليها، والتي سيبقى تنفيذها على عاتق الإدارة الفرنسية بالتنسيق مع الأطراف الاربعة الآخرين الذين يشكلون معاً «لقاء باريس الخماسي». وذلك بعدما جَدّدت القمة الفرنسية ـ السعودية التكليف المُعطى للرئيس الفرنسي منذ اللحظة الاولى للتفاهم، باقتراح «خريطة الطريق» التي يمكن ان تحفظ الحد الادنى من التماسك المطلوب بين اطرافها تأسيساً على بعض المعطيات التي شكلت الحد الادنى من القواسم المشتركة التي جَمعتهم في السادس من شباط الماضي بمبادرة فرنسية، من أجل مساعدة لبنان على تجاوز مجموعة الازمات التي يعانيها.

وبناءً على هذه المعادلة، التي اهتَزّت في مراحل متعددة منذ اللقاء الأول للمجموعة باعتراف أكثر من قيادي زارَ العواصم المعنية، ولا سيما منهم زوار الدوحة وعاصمة أخرى، لم تَشأ المراجع الديبلوماسية الكشف عنها، حيث كان هناك كلام واضح وصريح عن مَعوقات تحول دون الاجماع على ما يجري. وان لم تلتقِ العاصمتان على اسم «مرشح واحد» لرئاسة الجمهورية فقد التقتا على رَفض ما هو مطروح من سيناريو. وهو ما أدى الى ظهور ثابتة واحدة لا تؤدي في النتيجة الى مُباركة «الطَحشَة» الفرنسية التي عَبّرت عنها خلية الازمة الفرنسية بكل مقوماتها. فالحديث المُتنامي عن صفقة كاملة تمسّكت بها باريس لا تتوقف معالمها عند محطة التوافق على رئيس الجمهورية، وقد تصل الى موقع رئيس الحكومة هي التي شجعت أطرافاً في الداخل والخارج على رفضها ايضاً، لا سيما منها تلك التي عَبّرت عنها أكثرية القيادات المسيحية وتَوّجَتها الزيارة التي قام بها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لباريس بعد محطة الفاتيكان، والتي أعطت دفعاً أدّى بالدرجة الاولى الى فَرملة الخطة الفرنسية من دون تجميدها.

عند هذه المحطة، تضيف المراجع الديبلوماسية، كان لا بد من أن تَتّجه الأنظار الى القمة الفرنسية – السعودية وما سَبقها من الاجتماعات التحضيرية على المستوى الديبلوماسي والسياسي بين فريقي الرئيس والامير، والتي انتهت الى ضرورة التريث الفرنسي والحاجة الماسّة الى إعادة النظر في الاسلوب المُعتمَد في مبادرته من دون ضمان بقائها على ما هي عليه. فتعددت وجهات النظر التي تُحاكي مختلف الأطراف، سواء على مستوى الداعمين للخطوات الفرنسية ومعارضيهم في آن. ولذلكـ كان القرار بأن يتولى لودريان المهمة الاخيرة لتقويم الوضع من جديد وما يمكن القيام به تَوصّلاً الى المخرج الذي يقود الى إتمام الاستحقاق الرئاسي.

وهنا برزت المعادلة المنطقية التي قالت انّ انتخاب رئيس الجمهورية لا يمكن النظر اليه على انه الحل النهائي لمجموعة الأزمات المعقدة التي تعانيها البلاد، إنما هو المدخل الإجباري الذي لا مفر منه ليفتح الباب أمام بقية الخطوات الملزمة المؤدية الى اكتمال عقد المؤسسات الدستورية بما فيها الاستحقاق الحكومي في اولى المحطات الاساسية قبل مواجهة ما يَليها من خطوات مهمة تُحاكي المؤسسات المالية والنقدية بفِعل الشغور المُرتقب نهاية الشهر المقبل في حاكمية مصرف لبنان ومن بعده على مستوى القيادات العسكرية والامنية التي لا مخرجَ قانونياً لها يضمن استمرار العمل في المرفق العام، كما الذي تَحَكّم بنهاية ولاية المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم التي انتهت بانتقال سَلِس الى نائبه اللواء الياس البيسري، وهو الأمر الذي لا يمكن اعتماده في قيادة الجيش في ظل خلو سدة رئاسة الاركان من شاغلها منذ نهاية العام الماضي.

عند هذه المؤشرات وما أوحَت به «فسيفساء» المواقف الداخلية والخارجية، توقّفت المراجع الديبلوماسية امام المهمة التي كُلّف بها لودريان. وتَوصّلت الى ضرورة الاعتماد على ما يمكن ان يعود به الى باريس من معطيات جديدة يمكن أن توحي بالخطوات المقبلة التي سيحملها بأولوياتها إلى رئيسه أولاً، قبل ان يحملها مُرفَقة بالملاحظات الرئاسية الى أطراف لقاء باريس الخماسي، لا سيما منهم المملكة العربية السعودية التي تعاهد المُكلّف بها وزير الدولة المُفوّض بالملف اللبناني نزار العلولا ومعه السفير السعودي في لبنان وليد البخاري مع أعضاء الخلية الفرنسية، على ضرورة البحث فيها مع الأخذ في الاعتبار مواقف الاطراف الاخرى، لا سيما منها الجانب القطري، بعدما نالَ ما يمكن تسميته تفويضاً مَصريّاً نقل بالوسائل الديبلوماسية الى كل من الرياض والدوحة. فما تنتهي إليه العاصمتان من اقتراحات لن يكون الجانب المصري سوى مُسانِد لها بكل ما تقول به من خطوات ومواقف.

وبناء على ما تقدم، فَسّرت المراجع الديبلوماسية «الغموض البنّاء» الذي أجاد الديبلوماسي الفرنسي المُحنّك ممارسته في لقاءاته اللبنانية. فلم يفهم منه أحد من مختلف الأطراف الذين التقاهم في بيروت إن كانت باريس قد طَوَت مبادرتها او انها ما زالت قائمة. فالمعايير التي تَحكّمت بالزيارة في شكلها ومضمونها وَفّرت الحماية للموقف الفرنسي ومَنعَت تظهيره بكامله بُغية حماية المهمة التي وصفت بأنها دقيقة جداً. وهي آلية فهمتها المراجع الديبلوماسية بأنها جاءت ترجمة للمعادلات التي انتهت اليها جلسة 14 حزيران وموازين القوى التي أنتجَتها، فما كان قائماً قبلها من معادلات قد طُويَت. وعليه، بُنيَت القراءة لجولة لودريان قِياساً على التصنيف الذي اعتُمِد في لقاءاته اللبنانية، بَينَ مَن قَصَد زيارتهم في مقارهم من المراجع الرسمية والحزبية وبَينَ مَن خصّص له غداء او عشاء أو من استقبلهم في قصر الصنوبر.

عند هذه المعطيات يمكن القول، بحسب المراجع الديبلوماسية، انّ زيارة لودريان انتهت بزرع مزيد من الالغاز قبل ان يغادر بيروت عائداً الى بلاده مُستكملاً المهمة التي أُوكِلت إليه، وهي عملية تحتاج الى وقت ليس بقصير. فهو كشفَ عن موعد عودته الى بيروت إن دَعَت الحاجة اليها بطريقة غامضة، عندما قال أمام بعض مَن التقاهم ما يمكن ترجمته بالعربية: «خلال مجموعة من الاسابيع»، لِيترك الباب مفتوحاً أمام مجموعة من الألغاز التي تحتاج الى مَن يفكّكها. وهو ما أدى تلقائياً الى مجموعة من الأسئلة عن الجهة التي يمكنها القيام بهذه المهمة المعقدة ومتى وكيف؟

جورج شاهين- الجمهورية

مقالات ذات صلة