حكومة الإصلاحات الفارغة: من تخدع يا دولة الرئيس ميقاتي؟

أدّت الحكومة قسطها إلى العلا، وفقًا لما قاله مقياتي أمام ضيفه الموفد الفرنسي جاي إيف لودريان، بعدما “أنجزت المشاريع الإصلاحيّة المطلوبة منها، ووقعت الاتفاق الأوّلي مع صندوق النقد”، ويا حبذا لو تكرّم المجلس النيابي بإقرار مشاريع القوانين الموجودة أمامه، فيعطي بذلك “الدفع للحلول الاقتصاديّة والاجتماعيّة المرجوّة”.

جرأة غريبة!
قد يستغرب المرء في البداية جرأة ميقاتي في إطلاق ادعاء من هذا النوع، أمام لودريان بالتحديد، الذي كان أوّل من فهم تعارض مصالح النخبة السياسيّة اللبنانيّة مع شروط الصندوق، يوم كان وزيرًا لخارجيّة فرنسا عام 2020، فأعلن منذ ذلك الوقت عبارته الشهيرة: لا بديل أمامكم سوى صندوق النقد الدولي.

أغلب الظن، يدرك ميقاتي صعوبة خداع دبلوماسي من هذا الوزن، بادعاء شديد الخفّة من هذا النوع. وهو يعلم أن فريق عمل الدبلوماسيّة الفرنسيّة، وعلى وجه التحديد لودريان، الذي أصبح مبعوثًا شخصيًا للرئيس الفرنسي، يفهم تفاصيل الإصلاحات المطلوبة من قبل الصندوق، ويعرف أسباب عرقلتها، ويعرف بالتحديد نوعيّة المناورات التي تحول دون تنفيذها، ومنها تلك التي قامت بها –بالمناسبة- حكومة ميقاتي.

فهل يحاول ميقاتي هنا أن يخدع الرأي العام، في حضرة المبعوث الفرنسي؟ أم هل أراد تقاذف المسؤوليّات مع رئيس مجلس نوّاب نبيه برّي، الذي أطلق تصريحًا لا يقل خفّة عن تصريح ميقاتي، حين اعتبر أن لبنان نفّذ الإصلاحات المطلوبة من الصندوق ولم يتبقّ إلا بند أو بندين؟

حكومة الإصلاحات الفارغة
في لائحة الشروط التي وضعها صندوق النقد، عند توقيع الاتفاق الأوّلي مع لبنان، يرد شرط استراتيجيّة إعادة هيكلة الدين العام، التي كان يفترض أن تضعها حكومة ميقاتي، والتي لم تبصر النور حتّى اللحظة. بل وكما هو معلوم، لم تبادر الحكومة حتّى إلى تحديد هويّة الدائنين، لبدء التفاوض الجدّي معهم، تمهيدًا لوضع هذه الاستراتيجيّة.

ومن يعرف تفاصيل ما يجري في أسواق المال الدوليّة، وخصوصًا لجهة المضاربات والسمسرات التي تجري على سندات اليوروبوند، يدرك جيّدًا من المستفيد من تأخير التفاوض على هذه السندات. مع الإشارة إلى أنّ وزير الماليّة يوسف الخليل هو أوّل ما يفترض أن يُسأل عن تأخّر تنفيذ هذا الشرط بالذات.

من ضمن الشروط أيضًا، كان من المتوقّع أن تقوم حكومة ميقاتي بتدقيق ميزانيّات أكبر 14 مصرف تجاري، للوقوف عن وضعيّتها الماليّة، وأخذ هذه الوضعيّة بالاعتبار عند إعادة هيكلة القطاع. وكما يذكر الجميع، تذرّعت الحكومة في البداية بعدم توفّر التمويل لتكليف شركة أجنبيّة بتنفيذ هذا التدقيق. وبعد أن أبدت مؤسسات دوليّة استعدادها لتمويل العمليّة، عادت الحكومة للتحجّج بعدم وجود شركات “مرموقة” مستعدة لتكليف من هذا النوع. وهكذا، أطاحت الحكومة بمسار تدقيق المصارف.

.. ويوسف الخليل أيضاً
وبالنسبة إلى شرط إعداد الموازنة الإصلاحيّة، لم تنسجم موازنة العام الماضي مع المبادئ الإصلاحيّة التي طرحها الصندوق، وخصوصًا من جهة نوعيّة أسعار الصرف المعتمدة فيها، وتاريخ إعداد الموازنة والمصادقة عليها، ما دفع الصندوق إلى طلب الاهتمام بإعداد موازنة العام الحالي. وكما بات واضحًا، مرّ نصف العام، ولم تبصر الموازنة النور بعد، ما يجعلها من الناحية العمليّة لزوم ما لا يلزم، تمامًا كما حصل العام الماضي.

وبعد أن تم إجراء التدقيق المحاسبي في مصرف لبنان، كما نصّ التفاهم، أخفى وزير الماليّة التقرير، وتغاضى عن الإجابة عن استفسارات الصندوق العلنيّة حول سبب عدم إفشاء نتائج التدقيق. ثم تغاضى الوزير نفسه عن التنسيق مع المصرف المركزي، للدخول في مسار توحيد أسعار الصرف، بما يشمل تلك التي يتم على أساسها استيفاء الرسوم الضريبيّة. والوزير نفسه بالمناسبة، تغاضى منذ شهر شباط الماضي عن التدخّل إزاء عمليّات التزوير المنظمة التي تجري في ميزانيّة مصرف لبنان، والتي من شأنها العبث في حسابات توزيع الخسائر وإلتزامات الدولة اللبنانيّة، المتفق عليها مع الصندوق.

وأخيرًا، كان الإنجاز الوحيد الذي يمكن أن تتغنّى به الحكومة هو إعداد استراتيجيّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وفقًا للمبادئ العامّة التي وضعها الصندوق. لكن حتّى هذا الإنجاز الوحيد، أطاحت به الحكومة لاحقًا، بعدما رفضت المصارف معايير الاستراتيجيّة، التي نصّت على عدم تحميل المال العام كلفة الخسائر المصرفيّة، وشطب رساميل المساهمين في القطاع لتحمّل الشريحة الأولى من الخسائر. وعلى هذا الأساس، عادت الحكومة وعدّلت خطّتها، بإدراج فكرة صندوق استرداد الودائع، التي ستحمّل الدين العام عبء سداد الودائع، تماماً كما ترغب جمعيّة المصارف، وبعكس ما نصّت عليه شروط الصندوق.

دفن التفاهم مع صندوق النقد
تصريح ميقاتي اليوم، تزامن مع قرار مجلس شورى الدولة، الذي قبل من حيث الشكل طعن جمعيّة المصارف بخطّة الحكومة، التي جرى إعدادها منذ عام وشهر، حسب معايير صندوق النقد. طعن الجمعيّة، جاء ليطالب بتحميل الدولة مسؤوليّتها في سداد الودائع، التي تعيق سدادها خسائر لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالدين العام. لكن تشاء الصدف الغريبة أن يتزامن قرار المجلس اليوم مع إنجاز حاكم مصرف لبنان ألاعيبه في ميزانيّة المصرف المركزي، التي نقلت الجزء الأكبر من الخسائر المصرفيّة، وحوّلتها إلى ديون عامّة على الدولة اللبنانيّة.

إزاء كل هذا التحايل الذي يجري على حسابات توزيع الخسائر، وعلى عمليّة التعامل معها، كانت حكومة ميقاتي الغائب الأكبر، ومن ضمنها وزير الماليّة الذي كان يفترض أن يدقّق بميزانيّات المصرف المركزي دوريًا من خلال مفوّضيّة الحكومة في المصرف. وفي كل هذه المناورات، يستفيد الجميع من شغور منصب مفوّض الحكومة في المصرف، الذي يعطيه القانون صلاحيّة تمثيل وزارة الماليّة وإجراء هذه الرقابة.

مرّة جديدة، يعلم ميقاتي أن كل هذه التطوّرات ستعني دفن التفاهم مع صندوق النقد. فحكومته، وبالتكافل والتضامن مع المجلس النيابي ورئيسه، لم تكتفِ بالامتناع عن تنفيذ شروط هذا التفاهم، بل ذهبت بعيدًا في التحايل والتواطؤ، الذي سيحول دون توقيع لبنان على اتفاق نهائي مع الصندوق في القريب العاجل. بل ويدرك ميقاتي نفسه أنّ ما يجري اليوم من بهلوانيّات ماليّة وتزوير في أرقام مصرف لبنان سيحولان دون عودة لبنان إلى أسواق المال الدوليّة، كما سيحولان دون استعادة الانتظام النقدي أو المالي لعقود من الزمن.

في النتيجة، من حق كل لبناني أن يسأل ميقاتي إزاء تصريحه اليوم: من تخدع يا دولة الرئيس؟

علي نور الدين- المدن

مقالات ذات صلة