تضييق هامش الحريات: عشرات الاستدعاءات تطاول الصحافيين والنشطاء
التّرجمة العمليّة لما تُريده العصبة الحاكمة وضمنًا ما تُحاول جاهدةً تنفيذه، من حاكم مصرف لبنان والنائب العام التّمييزيّ ووزير التّربية ورئيس الحكومة المستقيلة وغيرهم.. هو لجم الشعب وتقييده وتجهيله. ولا نقصد بالتجهيل تلك النزعة المُعلنة لتبكيت وتكميم الأفواه بالبراميل الكيماوية أو بالاحتجاز التعسفيّ، بل وعلى غرار منهج كل الدول المارقة مُدعية الديمقراطيّة، تحاول السّلطة كبت الحقيقة المُجردّة، المُشاغبة، المنفلتة مما تستأنسه العصبة وترضى عنه، والقبض على النميمة، ولملمة الفضيحة، بالانزلاق الملتويّ تحت القانون وفوقه. وعلى امتداد الأشهر القليلة الماضيّة لم تفعل السّلطة سوى ذلك، باستدعاءاتها الدورية للصحافيين والنشطاء السّياسيين والاجتماعيين للتحقيق معهم اعتباطيًا، مُعتنقةً مذهب التّخويف والتمييع للقضايا، باسم حفظ الحقوق والكرامات والرموز وباسم القانون، لـ”تهذيب” الرأي، واللّسان، والموقف.
التخويف والتّرهيب
لعلّه من العصيّ الإحاطة وتقرير كل الاستدعاءات التّي طالت عشرات الصحافيين والنشطاء في الآونة الأخيرة، إلا أنّه بات جليًّا، النزوع الممنهج من قبل الطبقة السّياسيّة والجسم القضائي (بغالبيته) المتواطئ معها للحؤول دون إمعان الحركة “المُعارضة” لها، بفضحها. من استدعاء مالكي “ميغافون” و”مصدر عام” منذ نحو الشهرين، مرورًا باستدعاء الناشطة التّربوية والمعلمة نسرين شاهين (منذ الأسبوع) وصولاً لاستدعاء الصحافية في موقع “النشرة” باسكال أبو نادر صباح أمس الثلاثاء 20 حزيران الجاري، للتحقيق معها في مكتب جرائم المعلوماتيّة في دعوى مُقامة ضدّها، اليوم الأربعاء 21 حزيران.
وذُكر في موقع “النشرة” أن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يحاول “الاستقواء على الصحافية” التّي وانطلاقًا من احترامها القوانين اللبنانية وقرارات نقابة محرري الصحافة اللبنانية، سوف ترفض المثول أمام مكتب جرائم المعلوماتية. وأشار تقرير الموقع معللاًّ قرار الرفض “ولا سيما أن استدعاء الصحافيين، بهذا الشكل، عبر المراكز الأمنية لم يعد أمراً مقبولاً ويندرج في إطار الإرهاب الفكري المنظم، صوناً لقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، التي دفع اللبنانيون عموماً والإعلاميون خصوصاً أثماناً باهظة من أجل الحفاظ عليها على مر التاريخ”.
وهذه القضايا جاءت على متن سلسلة من الانتهاكات التّي تطاول قطاع الإعلام في لبنان والعاملين فيه من ناشرين، وصحافيين، ومحررين، ومصورين، وغيرهم.. هذه الانتهاكات التّي كان روادها من الرسميين (عبر إثارة دعاوى القدح والذمّ مثلاً) من جهة، وأفراد مناصرين لهم أو أفراد من عائلات أو مناطق أو حتّى طوائف العاملين بهذا القطاع (عبر الاعتداءات الجسدية أو الضغوط العائلية أو التهديدات الحزبية) من جهة أخرى. وفيما تتعاظم أعداد العاملين في قطاع الإعلام التّي مورست بحقهم أفظع أنواع الترهيب والقمع، اضطروا بحجتها لترك مهنتهم، أو الهجرة، أو حتّى المهادنة والمواربة في سبيل الحفاظ على مصدر الدخل. بينما قُتل أو عُطب العشرات طيلة السنوات الفائتة.
وفي هذا السّياق يُشير المحامي رفيق غريزي قائلاً: “يبدو أن السّلطة القضائية أو جزءًا منها، تُنفذ أجندة سياسية لحماية النظام، باعتماد آلية بوليسية على كل أصحاب الرأي المُعارض لها، تحت حجة القدح والذمّ. والذي لا نراه منطقيًا. إذا أخذنا قضية الناشطة نسرين شاهين كمثال، شخصيًا تواصلت مع النائب العام التّمييزيّ عند أخذه إشارة لتوقيفها، وبالرغم من الكلام المُلتبس الصادر عن القضاء الذي حاول التنصل من كونه استدعى الناشطة على خلفية منشور افتراضي فقط، قرأت المنشور أمام المُدعي العام التمييزي غسان عويدات، واقتنع عندها القاضي بأن المنشور لا يتضمن قدحاً وذمّاً بحقّ المشتكين، فاعتمدها حجة لإطلاق سراحها. وللمفارقة القضاء لا يتحرك، ولم يقم بتوقيف فاسد واحد، إلا أن شغل النيابات العامة والسّلطة القضائية الشاغل اليوم، استدعاء كل من يواجه هذه السّلطة ويُعبّر عن رأيه، وهذا قطعًا يدل على كوننا أمام دولة بوليسية، النيابات العامة وقصر العدل لم تعد مقصدًا لمطالبين بالعدالة، وصار الأحرار مكانهم السّجن بالمقابل”.
تضييق هامش الحريات
هذا وناهيك عن انتهاك نقابة المحامين لحقوق منتسبيها البديهيّة في التّعبير والرأي بإصدارها مطلع آذار الماضي، قرارًا قضى بتعديل المواد 39 إلى 42 من نظام آداب مهنة المحاماة الواردة في الفصل الّسادس المتعلق بعلاقة المحامي مع وسائل الإعلام، والذي اشترط الاستحصال المسبق على إذن من نقيب المحامين قبل المشاركة في أي ندوة أو مقابلة ذات طابع قانوني تنظمها وسائل الإعلام، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو المواقع الإلكترونية، أو المجموعات. وبناءً على هذا القرار، قامت نقابة المحامين باستدعاء المحامي نزار صاغية، المدير التنفيذي “للمفكرة القانونية”، الى جلسة استماع من دون تحديد السبب.
كل هذه المواقف والقرارات التّي ضج بها الشارع اللبنانيّ والرأي العام المُستنكر، لم تثني القضاء وخلفه المشتكين من السّاسة وحيتان الأموال والنقابيين، عن استئناف مُخالفتهم للقانون فيما يختص بمثول الصحافيين حصرًا أمام محكمة المطبوعات، لا أمام الأجهزة الأمنيّة (اللافت في مُعظم هذه الاستدعاءات، كونها جاءت في سياق دعاوى القدح والذمّ، التّي لا تزال موضع تشكيك قانونيّ من ناحيّة هدر مثل هذه الشكاوى وفي الفترة الحاليّة لطاقات وموارد الدولة المُنهارة مؤسساتيًا والمشلولة تشغيليًا)، من جهة. ولا الرجوع عن القرارات التعسفيّة والقمعيّة التّي طالت المُحامين من جهة أخرى. وإلى جانب كون هذه الاستدعاءات الدوريّة والانتهاك المُعلن للحقوق كان لها الفضل في التراجع المُطرد لمؤشر حريّة الصحافة في لبنان. فضلاً عن تضاؤل ما تبقى من حيز الحريّات العامة.
النقابات أيضاً
ومن جهته يرى الدكتور جاد طعمه رئيس اللجنة القانونية في المرصد الشعبي لمحاربة الفساد أن “المنظومة اللبنانية التي تضم أعضاء النادي السياسي اللبناني تحاول اليوم استعادة إحكام قبضتها الحديدية لتضرب بها كل صوت حر يمكنه أن يلفت النظر الى مكامن الفساد فيها والمجتمع يستعيد انزلاقاته نحو الدولة البوليسية. ما يحصل من اجراءات وتدابير متزامنة بشكل مثير للارتياب داخل الاتحادات العمالية ونقابات المهن الحرة، مع تماهي واضح مع القوى الحزبية التقليدية، هو خير دليل على ما نقول، ومحاولات ترهيب الناشطات والناشطين والصحافيات والصحافيين يحمل اليوم عنواناً إصلاحياً اسمه “ضبط الفوضى وتكريس الحرية المسؤولة”، لذلك فإن كل تصّرف وأداء فيه نهج قمعي ينتقي كلمات ومفردات منّمقة لتجميل أفعاله وتبريرها تجاه الرأي العام، لتضليله أو لجعل الغطرسة تبدو وكأنها ضرورية للصالح العام”.
لافتًا لكون “الاشارة القانونية الاخيرة (بحق الصحافية باسكال ابي نادر) في هذا الصدد تتمحور حول ضرورة إعادة قراءة صلاحيات مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية، للتنبه إلى أنه يقدم المساعدة الفنية للمحققين، وليس منوطا به قانوناً مهمة القيام بالتحقيقات، خصوصاً تلك المتعلقة بتدوينات أو مقالات واردة على وسائل التواصل الاجتماعي”.
في حين تغيب نقابة المحررين عن أداء واجباتها النقابية والمناقبية الحقيقية في حماية الصحافيين والصحافيات والدفاع عن حقوقهم وحرياتهم بوجه تعسف الأجهزة القمعية، وبظلّ التواطؤ الواضح لمجلس نقابة المحامين ومهادنتهم لرجالات السّلطة الفاسدين.. نرى وضع الحريات في لبنان مقلق وجدليّ، الأمر الذي يعكس طرديًا أن السّلطة اللّبنانيّة قد باتت في صدّد استشعار خطورة المأزق الشعبيّ والدوليّ، التّي اقحمت نفسها فيه، بعد عقودٍ من الفساد واللصوصيّة ونهب المال العام. وبينما تتضافر جهود مسؤوليها وساستها وأجهزتها الأمنية في قمع المعارضين والمناوئين للمسلك الملتويّ في الحكم، أكان في ساحات التظاهر، أو الصحف والمواقع الإخبارية ووسائل الإعلام، وصولاً لأروقة القضاء وجلسات المساءلة والمحاسبة.. بات استشراس هذه السّلطة على تدعيم مناعة حصنها الآيل للسقوط محطّ استنكار وغضب عارم ومقاطعة، بل ونقطة سوداء إضافية في سجلها الحافل.
بتول يزبك- المدن