في المقايضات الإقليميّة: لا أميركا ولا فرنسا ولا السعوديّة مستعدّة لشراء ورقة لبنان !
الحدّ الأقصى الذي اتفق عليه كلّ من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال لقائهما الجمعة الماضي في شأن لبنان هو أنّ المملكة العربية السعودية تؤيّد المبادرات الفرنسية في شأن التعجيل بإنهاء الشغور المؤسّساتي في البلد، من دون الدخول في تفاصيل ما يمكن لباريس أن تقترحه، وذلك في انتظار جولة الاتصالات التي سيُجريها الموفد الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية السابق جان إيف لودريان في بيروت بدءاً من الغد وعلى مدى ثلاثة أيام.
الانطباع الذي تركته المحادثات بين ماكرون وبن سلمان هو أنّ الرياض ما زالت غير متحمّسة للانخراط في مشاريع الحلول العملية حول لبنان، حسب استنتاج أوساط فرنسية وأخرى لبنانية تسقّطت المعلومات عمّا جرى بين الجانبين.
تُركت أمور لبنان للاتصالات اللاحقة لأنّ القسط الأكبر من المحادثات تناول التعاون بين الدولتين حول الطاقة النووية والشمسية والموقف من روسيا في الحرب في أوكرانيا. وهو ما يعكس الحقيقة التي يرفض كثرٌ من اللبنانيين تصديقها، وهي أنّ اهتمام الجانب السعودي ينصبّ على غير لبنان في هذه المرحلة، سواء في علاقته مع باريس أو مع اللبنانيين أنفسهم، لأنّه لا قناعة لديه بأنّ الاهتمام بلبنان سيغيّر واقع سيطرة الحزب على قراره، ولذلك يكتفي بدعوة الفرقاء اللبنانيين إلى انتخاب رئيس قادر على تنفيذ الإصلاحات ويجمع اللبنانيين ويعمل مع الحكومة المقبلة على إبعاد لبنان عن الصراعات.
باريس تراهن على العلاقة السعوديّة بإيران
انقلبت الآية خلال محادثات باريس بين الجانبين. فماكرون، الذي كان يتولّى التواصل مع إيران في ما يتّصل بالوضع في لبنان، “استنجد” هذه المرّة بوليّ العهد السعودي للاستفادة من دور المملكة الإقليمي، وخصوصاً في لبنان. وقد حدّثه عن التقارب بين الرياض وطهران معتبراً أنّه يجب أن يتبلور في خطوات عملية، ومنها أن تسهّل الأخيرة إجراء الانتخابات الرئاسية في لبنان. يعكس ذلك بالطبع خيبة الأمل الفرنسية حيال إقناع طهران بلعب دور مساعد في إنهاء الشغور الرئاسي.
لم ترشح معطيات عن طبيعة ردّ بن سلمان على الطلب الفرنسي، لكنّ المعروف، حسبما سبق أن فهمه مسؤولون لبنانيون، أنّ لبنان يأتي في المرتبة الثالثة على أجندته في العلاقة السعودية الإيرانية بعد اليمن وسوريا. والأخيرة هي موضوع تباين بين الرياض وباريس التي كان لها موقف متشدّد إزاء التطبيع العربي والسعودي مع النظام في دمشق. وثمّة من يضيف إلى تسلسل الاهتمامات السعودية في العلاقة مع طهران، العراق، قبل لبنان. وليس جديداً قول مصادر فرنسية رفيعة إنّ الحزب كان تبلّغ من طهران أنّ لبنان ليس جزءاً من الحوار بينها وبين الرياض، وإنّ الحزب أبلغ المسؤولين الفرنسيين بذلك خلال لقاءاته المتتالية معه. فقد سبق للأمين العام للحزب أن شدّد في أكثر من خطاب، منذ الاتفاق السعودي الإيراني منتصف آذار الماضي في بكين، على أنّ “كلمة لبنان لم تُلفظ” في الاجتماعات السعودية الإيرانية.
ورقة الرئاسة غير مهمّة في المقايضات الإقليميّة
هل من مستجدّات بعد زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود لطهران السبت الماضي، غداة لقاء ماكرون مع بن سلمان؟
في انتظار اتّضاح ما جرى في محادثاته مع وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان ومع الرئيس إبراهيم رئيسي، وهل تناولت لبنان من ضمن القضايا الإقليمية التي قيل إنّه جرى بحثها، تغلب التكهّنات على الوقائع. وفي هذا الإطار يؤكّد نائب منخرط في اتصالات مع باريس والرياض وغيرهما من العواصم المواكبة لجهود إنهاء الفراغ الرئاسي، ومع الحزب كوكيل لطهران، أنّ لبنان ليس أولوية في باريس ولا طهران ولا السعودية، ويصعب توقّع أن يحضر في سلّة المقايضات بين الملفّات المختلفة التي تعنى بها العواصم الثلاث. فأيّ من هذه الدول ليست مستعدّةً لمقايضة الفوز برئاسة لبنان في سياق تبادل التنازلات عن الأوراق في قضايا إقليمية أخرى تحتاج إلى معالجات. فلا واحدة من هذه العواصم على استعداد لشراء ورقة الإفراج عن رئاسة لبنان مقابل أمور يُتّفق عليها في ميادين أخرى. كما أنّ إيران التي تمسك بالرئاسة غير مستعدّة لأن تبيعها مقابل إجراء أو تدبير ما في اليمن أو العراق أو سوريا، لا سيما أنّ هذه الملفّات جوهرية بالنسبة إليها وبالنسبة إلى دول الخليج أكثر من الملف اللبناني.
عند الحديث عن إمكان حصول مقايضة أميركية إيرانية، يعتبر النائب نفسه أنّ المفاوضات الجارية بين الجانبين محدودة العناوين: الإفراج عن رهائن أميركيين في طهران، مقابل بضعة مليارات من أرصدة الأخيرة محتجزة في كوريا والعراق. وبالتالي لا إيران مستعدّة لإقحام الرئاسة اللبنانية في المقايضة على هذا الصعيد، ولا الجانب الأميركي.
تقود كلّ الحجج المذكورة إلى اعتبار ورقة الرئاسة اللبنانية الأصغر والأقلّ أهمية في ما يجري التداول به بين الدول المعنيّة.
الداخل عطّل خياراً خارجيّاً
يقرّ النائب نفسه بأهميّة التحرّكات الخارجية. لكنّ الحجّة نفسها التي تُستخدم من أجل المراهنة على صفقة خارجية بعدما أثبتت الجلسة النيابية الـ12 صعوبة اتفاق الفرقاء اللبنانيين على ملء الشغور، تدفع إلى الاستنتاج أنّ الصفقة الخارجية ليست بالضرورة المخرج من الانسداد الحالي.
يرى النائب الدكتور غسان سكاف، الذي لعب دوراً من خلال تحرّكه في المرحلة الماضية في التمهيد للجلسة عبر اتفاق المعارضة والقوى المسيحية على مرشّح “جدّي” كان يشترطه فريق الممانعة لعقد الجلسة، أنّها من المرّات النادرة التي يلعب فيها الداخل دوراً في اختيار الرئيس الذي كان يُفرض في السنوات السابقة على اللبنانيين، سواء من دمشق، أو من طهران برضى أميركي.
لكنّ ما حصل برهن أنّ الخارج غير قادر على فرض رئيس، وأنّ الداخل قادر للمرّة الأولى على لعب دور في تقرير الاسم الذي يمكن أن يكون رئيساً، وأنّ الخارج يدعم ويساعد، لكنّ للقوى السياسية اللبنانية وزنها في الاختيار.
في المقابل بلغ الانسداد مرحلة يصعب معها على أيّ من الفرقاء الداخليين التنازل لأنّه سيُعتبر انكساراً له، وخصوصاً الحزب. وهذا يعني امتداد الشغور الرئاسي لمزيد من الوقت، وهو ما توازي أضراره الشكوى من هيمنة الحزب على القرار في حال جاء الرئيس الذي يرشّحه هو.
هل يدعو لودريان لحوار وأين؟
والحال هذه ماذا يمكن أن تنتجه مهمّة لودريان؟
يتسلّح الجانب الفرنسي باستمرار التأييد الأميركي والسعودي لتحرّكه في لبنان، على الرغم من أنّ العديد من الأوساط اللبنانية المعارضة بات ينظر إليه بعين التشكيك نظراً إلى تبنّي الفريق الفرنسي خيار فرنجية مع نواف سلام لرئاسة الحكومة. باريس لم تعد متمسّكة بخيارها مثلما كانت في الأشهر القليلة الماضية، وفي الوقت نفسه ترى وجوب استمرار الضغوط لانتخاب رئيس.
يتساءل مصدر سياسي على صلة دائمة بالجانب الفرنسي عن إمكان أن تقوم النسخة المعدّلة للمبادرة الفرنسية على استمزاج آراء الفرقاء اللبنانيين في دعوتهم إلى طاولة حوار للبحث في مخارج من الأزمة. وهي فكرة تلوح في الأفق منذ أشهر وسبق أن طُرحت من جهات عدّة، لكنّها تحتاج من أجل بلورتها إلى تحديد مكان اجتماع كهذا لأنّ اختياره يتطلّب أخذ الكثير من العوامل في عين الاعتبار لإنجاح الفكرة.
وليد شقير – اساس