باريس تستدير: لحل توافقي ثالث!
من الطبيعي أن تتمحور الحركة باتجاه التحضيرات الجارية للجلسة التي حدّد موعدها رئيس المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. صحيح انّ جميع القوى السياسية تدرك سلفاً انّ الدخان الابيض لن يتصاعد من الجلسة التي تحمل الرقم 12 من سلسلة جلسات انتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكنّ السيناريوهات المطروحة والرسائل السياسية التي ستحملها اضافة الى الخلاصات المنتظرة، ستعطي مؤشرات حقيقية وفعلية وصورة واضحة للمعادلة الجديدة. وصحيح ايضاً انّ اي حركة خارجية داعمة لهذا المرشح او ذاك لم تسجل بشكل واضح، لكن من السذاجة بمكان الاعتقاد بأنّ الترتيبات الحاصلة والتموضع الجديد يحصل بإرادة داخلية «صافية».
فالتقاطع ما بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر على ضرورة إسقاط فرنجية لا يعتبر كافياً للتفاهم من بُعد على دعم ترشيح جهاد ازعور. المنطق يقول ان ثمة قوة دافعة غير مَرئية فعلت فعلها، خصوصا ان باسيل حسمَ موقعه بعد عودته من باريس. وليس المقصود هنا التأثير الفرنسي، بقدر الاستنتاج بأنه قد يكون تَحادَث مع أحد ما خلال تواجده على الاراضي الفرنسية.
والاشارة الثانية جاءت من موقف كتلة جنبلاط التي انتقلت فجأة من الاقتراع بورقة بيضاء الى الاقتراع لصالح ازعور. هو موقف فاجَأ الجميع، وعزّز الانطباع بوجود طرف خارجي شَجّع جنبلاط في هذا الاتجاه. والمعروف عن جنبلاط حرصه على تنسيق خطواته الرئاسية دائماً مع السعودية.
ووفق الحسابات الجارية فإن مختلف البوانتاجات بدأت تمنح ازعور اكثر من 60 صوتاً، وهو رقم يشكّل ضربة معنوية للفريق الداعم لفرنجية، وتحديداً للثنائي الشيعي، ما سيعني رسالة اقليمية «خفية» لـ»حزب الله». لذلك يَصعب على البعض التصديق بأن الثنائي الشيعي الذي ارتكب اخطاء تكتيكية بالجملة سيُسَلّم بهذه السهولة بهذه النتيجة. ولذلك يرجّح هؤلاء ان تطير الجلسة حتى من الدورة الاولى. لكن السؤال هو كيف وبأيّ طريقة ؟ وهل سيؤدي ذلك الى خسارة معنوية اضافية؟
وبعيداً عن السيناريوهات المطروحة، فإن الجميع يدرك جيداً أن التأثير الشيعي في لعبة الانتخابات الرئاسية لا يمكن قياسه بلغة العدد بل بحجم تأثيره الفعلي في المعادلة اللبنانية، والتي تنتج رئيساً للجمهورية. وهو ما يعني استطراداً بأن المأزق مستمر رغم التعديلات التي طرأت على المعادلة اللبنانية القائمة، وأن الثنائي الشيعي الذي تراجعت قدرة فرضه ما يزال يحتفظ بكل أريحية بقدرات رفضه. وبالتالي، بغضّ النظر عن المسار الذي ستسلكه جلسة الاربعاء، فإن المأزق سيبقى قائماً وهو مرشح للتمدد طوال اشهر الصيف على ما يبدو. والملاحظة الاولى التي يمكن استخلاصها من التطورات التي حصلت تقضي بوضع علامة استفهام حول الموقف الحقيقي للسعودية بعد الكلام الكثيف الذي جرى الترويج له حول تَحَوّل حصلَ تجاه الملف الرئاسي.
والملاحظة الثانية هي حول عمق المأزق الذي وصل اليه الخلاف بين التيار الوطني الحر و»حزب الله»، ولقد تَرَدّد في الأروقة انه جرى ثَنِي الرئيس ميشال عون في اللحظات الاخيرة عن الرد بعنق على كلام اعلامي حزبي طال النائب جبران باسيل. وفي المقابل فإنّ «حزب الله» رفض اي عروض للتواصل من جديد مع باسيل، حتى لو تخلّى الاخير عن شرطه بالتراجع المسبق عن ترشيح فرنجية كمقدمة لحصول اللقاء، وثمة كلام من العيار الثقيل يجري تناقله في كواليس الطرفين حيال العلاقة بينهما. وقيل ان الرئيس عون مُنزعج جداً من «اللعب» الجاري بنواب تكتله لا بل بأسماء تمسّ اليه بالقرابة. وعلى سبيل المثال، السعي لإغواء اسم نيابي بارز حيث للاقتراع الشيعي ثقل كبير في دائرته الانتخابية، بهدف التمرد على قرار باسيل وشق صفوف الكتلة النيابية.
الملاحظة الثالثة وتتعلق بالرسائل الخفية التي ترسلها دمشق. فذهاب الرئيس عون الى دمشق يحمل عنواناً واضحاً بأن خلافه مع «حزب الله» بسبب ترشيح فرنجية لا يعني انه اصبح خارج هذا المحور السياسي. لكن السؤال هو لماذا حدّد الرئيس الاسد موعداً لعون في ظل خلافه الحاد والانقطاع الحاصل مع «حزب الله» حول الملف الرئاسي، خصوصا انّ استقبال عون حظيَ بتكريم كبير هو في حد ذاته رسالة، بينما زيارة فرنجية الاخيرة الى دمشق لم يعلن عنها رسمياً. كذلك فإن ما نُقل عن مضمون الجلسة لم يُظهر دفعاً سورياً لصالح خيار الثنائي الشيعي، بل دعوة باردة للتفاهم وتجاوز الخلافات.
في الواقع إن اللبنانيي،÷ وبسبب خبرتهم السابقة مع اسلوب دمشق السياسي، يعرفون جيداً ان ثمة رسائل سورية مبطنة ومشفرة لا بد من تفكيكها.
والملاحظة الرابعة والاخيرة تبقى في المستجدات الفرنسية، فهنالك قاعدة ثابتة تقول انه لا يجوز تغيير القائد خلال المعركة الا اذا كان الوضع سيئاً. فهل هذا ما يعنيه ايلاء الملف اللبناني الى وزير الخارجية السابق جان ايف لو دريان؟ خصوصاً انّ مكانة الرجل كبيرة وهو برتبة اعلى من باتريك دوريك وحتى من رئيسه ايمانويل بون. الواضح وجود «تحديث للمبادرة الفرنسية. لودريان هو وزير خارجية الفترة الرئاسية الاولى لماكرون، وهو يعرف الملف اللبناني جيداً ويعرف اللبنانيين اكثر، والمعروف عنه صلابته وادراكه بفساد الطبقة السياسية. وهو ايضا كان قد تولى حقيبة الدفاع في وقت سابق، ومن خلالها بنى علاقات مع مسؤولين خليجيين وحظيَ بتقدير السعوديين والاميركيين.
لودريان الذي يحضر لجولته الخليجية واللبنانية، سيعمل على لقاء جميع الاطراف والاستماع اليهم ومن ثم كتابة تقريره مع الافكار التي يقترحها ورفعه الى الرئيس الفرنسية.
وهو ما يعني بأنّ ماكرون متمسك بدور بلاده في لبنان، ولكنه أدخل تعديلات على مبادرته السابقة ولو من دون ان ينقلب عليها بالكامل.
صحيح انّ لودريان باشَرَ بالعمل على ترتيب فريقه الذي سيعاونه، لكن مرجعه سيبقى قصر الاليزيه.
وقد يكون جوهر تحرّكه يقوم على اساس انّ الحل التوافقي يقتضي الاطاحة بالمرشحين المتنافسين في جلسة الاربعاء المقبل، في موازاة البحث عن رئيس حل يتوافق عليه الجميع وعلى رأسهم «حزب الله».
وفور صدور قرار تعيين لودريان، أجرى رئيس الخلية الديبلوماسية في قصر الاليزيه ايمانويل بون ومساعده باتريك دوريل لقاء عمل بعيدا عن الاعلام لِشرح الخطوة الحاصلة. بون اعتبر انّ المخرج للازمة اللبنانية يتطلّب اكثر من الاتفاق على الاسم. واضاف: علينا ان نجد إجماعاً لا يوجد فيه منتصر ولا مهزوم. ومن ثم صياغة اتفاق حول ما هو ضروري ومُلِحّ لتعافي البلاد. وكلام بون حول الاجماع يعني حكماً تجاوز المبادرة الفرنسية الاخيرة.
وتابع بون انه بالنسبة لفرنسا فإنّ رئيس الجمهورية الصالح هو الذي يلتزم بفتح اللعبة للالتقاء حول برنامج اصلاحات، وقادِر على دعم الرئيس المقبل للحكومة للذهاب الى تطبيق الاصلاحات، وتأمين الاستقرار الامني في لبنان من خلال عمل قوات اليونيفل في الجنوب او من خلال الدعم المباشر من قبل الجيش اللبناني.
وتابع بون بأنّ التزام صندوق النقد الدولي يحتاج الى ثقة المانحين من خلال التركيز على تنفيذ الاصلاحات الاساسية، لا سيما في مجال الطاقة والتمويل العام. وبعد ان وصف الوضع الحالي بالمعقد جداً، جدّد التزام ماكرون بإيجاد حل والذي طلب من لودريان التحرك بسرعة.
وكلام بون المهم في الاجتماع المغلق تابعه باتريك دوريك في الاتجاه نفسه.
الواضح انّ باريس باتت تفتش عن خيار جامع جديد ويحظى بالغطاء الخارجي، ولذلك كان لافتاً البيان الصادر عن وزارة الخارجية السورية ازاء الوضع المتوتّر في جنوب لبنان،ّ فهي وجهت في بيان لم يسبق ان صدر مثله منذ زمن بعيد جداً، تحية للجيش اللبناني لدفاعه ببسالة عن ارض لبنان وسيادته. هذا البيان الذي جاء بعد زيارة عون المثيرة الى دمشق، ووسط الحركة الخارجية الحاصلة بخصوص ملف الرئاسة اللبنانية.
تبقى الاشارة الى حركة المناقلات والتعيينات السريعة الجارية في طاقم السفارة الاميركية في عوكر. ومع قرب ترك دوروثي شيا لموقعها، جرى تحديد العشرين من الشهر الحالي لإقامة الاحتفال الوطني الاميركي كبديل عن الرابع من تموز. السبب واضح وهو بسبب مغادرة شيا مقر عملها في تموز حيث ستخضع لجلسة الاستماع في الكونغرس. وستصل فوراً السفيرة الجديدة، حيث تجري ورشة استبدال القائم بالاعمال وبعض مواقع السفارة.
وهذه الاشارة توحي بأنه لا مجال لإهدار الوقت، لكنها تُنبئ ايضاً بأنّ فصل الصيف قد لا يشهد التفاوض المطلوب مع «حزب الله» للتفاهم على المرحلة المقبلة انطلاقاً من الاستحقاق الرئاسي. ربما يجب انتظار الاتفاق النووي مع ايران قبل الشروع في الورشة اللبنانية، وهو ما سيتطلب بعض الوقت.
جوني منيّر- الجمهورية