جوع وآلام.. المسنون في لبنان يدفعون ثمن الأزمة الاقتصادية
“والدتي مهددة بالعمى، إذا لم أتمكن من تأمين كلفة عمليتها الجراحية، فقد خسرت بصرها في عينها اليسرى، وبالكاد ترى في عينها اليمنى، وأنا أخشى من إطلاعها على الحقيقةٌ المرّة بأن أقل من ألفي دولار تنهي معاناتها، لكننا في بلد لا يولي أي أهمية للمسنين وحقوقهم، بل لأي من مواطنيه”.. بهذه الكلمات بدأت منال الحديث عن مأساة كبار السن في لبنان.
تحاول منال التخفيف من وطأة الواقع المرّ على والدتها ماريا، البالغة من العمر 85 سنة، بالقول لها أنه لا يزال أمامها متسع من الوقت كي تصلح ما أفسده الدهر في عينيها، رغم أنه بحسب ما تشرح لموقع “الحرة”، “يوماً بعد يوم تسوء حالها، فهي تعاني من الزرق وتلف عصب إحدى عينيها وتكلّسها”.
لا ضمان صحيا يغطي علاج ماريا، والنتيجة الحكم عليها بالتقوقع على سريرها منتظرة قدرها، إذ أن عدم قدرتها على الرؤية جيداً يحول دون إمكانية تنقلها منفردة، وتقول منال “لا قيمة للمسن في لبنان، إذ يعامل كأنه منتج انتهى تاريخ صلاحيته، وهذا الأمر ليس بجديد، فقبل الأزمة الاقتصادية لم يول المسؤولون أهمية لكبار السن فكيف مع الظروف الصعبة وإفلاس خزينة الدولة”.
حتى الأدوية التي تحتاجها لكي لا تفقد بصرها كلياً في عينها اليمنى بعضها غير متوفّر في الصيدليات والبعض الآخر مرتفع الثمن.
تحاول منال كل ما في وسعها لتأمينها لها، وتقول: “أعرّض صحتي للخطر نتيجة تفضيل شراء أدوية والدتي بدلاً من أدوية الضغط والسكري التي أحتاجها، وإذا كانت السنوات المتبقية لها من العمر معدودة، إلا أن ذلك لا يعني أن تفارق الحياة من دون حفظ كرامتها وحقوقها”.
حال ماريا كحال العدد الأكبر من كبار السن في لبنان، المحرومون من أدنى حقوقهم والمفروض عليهم تحمّل الألم والمعاناة لأن لا ضمان لشيخوختهم في بلدهم، في وقت لا يملك أولادهم المال لتأمين ما يحتاجونه من طعام وطبابة واستشفاء ودواء.
يشكل كبار السن في لبنان، بحسب ما ورد في تقرير صادر عن “المؤسسة الدولية لكبار السن” العام الماضي، “11% من سكان البلاد، مع متوسط أعمار يصل إلى 78 عاما للرجال و82 عاما للنساء.
ورغم أن هذه النسبة هي الأعلى بين الدول العربية، لا يزال لبنان من أضعف البلدان في المنطقة في تأمين الحماية الاجتماعية لكبار السن، إذ يعتمد حوالي 80% منهم على أسرهم للحصول على الدعم المالي أو على مدخراتهم التي فقدت قيمتها إن وجدت، كما أن معظمهم لا يتلقون أي معاش تقاعدي أو دعم مالي من الدولة على الإطلاق”.
آلام مضاعفة
على سرير منزلها تصارع حمدة مرض السرطان من دون “سلاح” مادي لتأمين الدواء وفاتورة الاستشفاء، مما ضاعف أوجاعها وزاد من نسبة الالتهاب التي تنهش جسدها معرضة حياتها للخطر، بحسب ما يقوله قريبها ربيع.
قبل 8 أشهر، اكتشفت حمدة إصابتها بسرطان الثدي، طلبت المستشفى ستة آلاف دولار لاستئصال أحد ثدييها، وزوجها عجوز لا يملك، كما يقول ربيع لموقع “الحرة”، سوى بقرة يبيع حليبها بالكاد، تدر عليه ربحا لا يتجاوز الدولارين يومياً، كما أن “وضع ولديها ليس أفضل حالاً، ومع ذلك عملا كل ما في وسعهما لتأمين المبلغ، إذ باعا كل ما يملكانه، وطرقا أبواب الجمعيات والخيّرين، لكن عدم القدرة على إكمال علاجها أدى إلى التهاب ثديها الثاني، ومن ثم أجزاء عدة من جسدها”.
الآلام التي تشعر بها حمدة لا تحتمل، فأقوى أنواع المسكنات لا تغلبها، ولا تزال رحلة علاجها طويلة وتتطلب، كما يشير ربيع “الخضوع لـ12 جلسة كيمياوية كلفة كل منها 15مليون ليرة، وحقن يومية على مدى ثلاثة أشهر سعر الواحدة 920 ألف ليرة، في حين لا تملك عائلتها ثمن واحدة منها”.
لا يتمتع كبار السن في لبنان بحماية اجتماعية، والموظفون الذين يخضعون لقانون الضمان الاجتماعي يخسرون، كما تقول الأستاذة الجامعية والخبيرة في شؤون كبار السن، منال سعيد حوراني “ضمانهم ويحرمون من راتب التقاعد عند بلوغهم الخامسة والستين من عمرهم، أي حين يصبحون بحاجة أكثر للرعاية الوقائية والطبية حين يكون كبار السن أكثر عرضة للإصابة بكافة أنواع الأمراض مع التقدم بالعمر”.
وتشرح سعيد في حديث لموقع “الحرة” أن “المسنين أحد الفئات المهمشة في لبنان ومن يدفعون ثمن الأزمة الاقتصادية، فالمتقاعدون منهم خسروا الأموال التي ادخروها وتعويض نهاية الخدمة بعد حجز المصارف عليها وتآكل قيمتها مع انهيار سعر صرف الليرة، كما أن صناديق الضمان والتعاضد ووزارة الصحة لا تغطي التكاليف الصحية الباهظة، وزاد الطين بلّة، ارتفاع أسعار الأدوية وعدم توفرها في الصيدليات، كل ذلك أدى إلى تدهور صحة المسنين”.
تقسّم سعيد كبار السن في لبنان إلى مجموعات عدة، “منهم من لا يحتاجون أي إعالة كونهم يتمتّعون بصحة جيّدة واستقلالية بدنية وإدراكية، ومنهم عاجزون يحتاجون إلى رعاية مؤسساتية أو منزلية، والمشكلة الكبرى أن كل هذه الفئات تعاني في لبنان، إذ من كانوا يدّخرون لشيخوختهم صدموا بفقدانهم لأموالهم”.
وسبق أن أشار تقرير “المؤسسة الدولية لكبار السن” إلى أنه “مع انهيار أنظمة الدعم والرعاية التي اعتمد عليها كبار السن في الماضي – سواء من خلال البرامج الحكومية أو القطاع الخاص أو المنظمات غير الحكومية أو الشبكات الأسرية – وجد العديد منهم أنفسهم من دون أي مصدر للدخل، أو مجبرين على العمل حتى بعد سن التقاعد”.
فقدان الأمان
شيخوخة “قاتمة” تطل برأسها على موظفي الدولة الذين اختاروا قبل سنوات العمل في القطاع العام وإن كان براتب أقل من القطاع الخاص، وذلك بهدف الحصول على تعويض يسندهم في كبرهم وتغطية صحية تضمن عدم موتهم على أبواب المستشفيات، لكنهم صدموا لأن تعويضاتهم أصبحت بلا قيمة مع ارتفاع سعر صرف الدولار، منهم المؤهل أول، تيسير أيوب، الذي تقاعد العام الماضي من قوى الأمن الداخلي، ويقول “بلغ تعويض بدل خدمتي عن 32 سنة، 300 مليون ليرة، هذا المبلغ كان يعادل 200 ألف دولار على سعر صرف 1500 ليرة، واليوم بالكاد يعادل 3500 دولار، وفوق هذا لا يمكنني سحبه من المصرف”.
أبسط الحقوق لم يحصل عليها تيسير وزملاؤه المتقاعدون، وهي بحسب ما يشير “الاستشفاء، إذ قبل فترة عانيت من الحصى في المسالك البولية، أسبوعان وأنا أطرق أبواب المستشفيات من دون أن يستقبلني أي منها، اضطررت للاستدانة لتأمين الدواء، والكارثة الأكبر يواجهها المتقاعدون المصابون بأمراض مزمنة بعدما توقف المركز الطبي العائد لقوى الأمن عن تأمين أدويتهم”.
حال الوضع المادي الصعب لتيسير دون تمكنه من تسجيل أبنائه في الجامعة، اقتصر الأمر على إكمال تعليمهم في مهنية رسمية في البلدة، يقصدونها تحت المطر نتيجة ارتفاع بدلات التنقل. ويقول لموقع “الحرة”، “لا شك أن أولادي تأثروا نفسياً من الواقع المرّ، فبعد أن كانوا ينتظرون العيش في بحبوحة حين أقبض تعويضي، صعقوا أنه بدلاً من ذلك ساء الوضع وبدأت كما زملائي في الأسلاك العسكرية بالاستدانة، والخوف الأكبر مما تخبئه لنا الأيام، إذ أخشى أن أجد نفسي مضطراً لأن أشحذ لقمة عيشهم، عندها من المؤكد أن الموت أرحم”.
خاطر ابن بلدة تكريت العكارية بحياته من أجل حماية أمن الوطن، واليوم يحتاج إلى من يشعره بالأمان، ويلفت إلى أن “الوضع مزر، منذ شهرين لم يذق أولادي طعم اللحوم والفاكهة، كل الصرخات التي نرفعها لا تلقى آذاناً صاغية، لا من قبل قوى الأمن ولا حتى الجمعيات ووزارة الشؤون الاجتماعية التي ترفض التجاوب معنا بحجة أننا نتبع مؤسسة عسكرية”، كما أن عدداً من كبار السن يعانون بحسب الأستاذة الجامعية من سوء تغذية، “إذ فرض غلاء المعيشة على العديد من العائلات الاقتصاد بالمواد الغذائية”.
قبل أيام ناقشت اللجان المشتركة في مجلس النواب نظام التقاعد وحماية الشيخوخة (ضمان الشيخوخة)، وهو من مشاريع القوانين التي أحالتها الحكومة للبرلمان سنة 2004، وإثر انتهاء الجلسة، قال النائب إلياس بو صعب “يتحتم علينا في ظل هذا الوضع الاقتصادي والمالي أن نقر هذا القانون”.
وأضاف “عملت منظمة العمل الدولية مع المجلس النيابي والزميل نقولا نحاس على هذا المشروع، ووضعوا ملخصاً لما توصلوا إليه وهو شيء حضاري. هناك أسئلة، كيف سنطبقه في ظل الانهيار؟ نحن علينا أن نحضّر القانون، ومن هذا المنطلق، بعد الدراسة، حددنا مهلة أسبوعين لتقويم ما حصل لإعادة مناقشة المشروع. وكل نائب سيرسل ملاحظاته خطياً إلى أمانة السر. وإذا اضطررنا فسنعقد اجتماعاً مع النواب الذين تقدموا باقتراحاتهم، ومن ثم تعقد جلسة للجان المشتركة من أجل إقرار هذا المشروع”.
خطر محدق
يخشى تيسير أن يضطر أبناؤه إلى الهجرة، حالهم كحال من سبقوهم هرباً من الأزمة الاقتصادية، فيجد نفسه في شيخوخته من دون “عكاز”. وتعلّق سعيد: “يعاني عدد من كبار السن العزلة بعد أن فصلتهم الغربة عن أبنائهم، مع غياب الرعاية المنزلية أو أي إجراءات تتيح للعاجزين منهم البقاء في المنزل بالإضافة إلى أن مراكز الإقامة الطويلة غير متاحة لجميع كبار السن إما لغياب الأمكنة، أو بسبب عدم القدرة المادية لتحمل تكاليفها”.
حتى دور الرعاية لم تسلم من الأزمة، فلم ترفع الحكومة سعر الكلفة اليومية للمسن، فوزارة الصحة لا تزال تحتسب كما يقول المدير التنفيذي في دار الرعاية المارونية، مالك مارون، “يومية المسن 52 ألف ليرة، أما وزارة الشؤون الاجتماعية فتحتسبها 26 ألف ليرة، في حين أن الكلفة الحقيقة تصل إلى 500 دولار شهرياً، وفوق هذا لم نحصل على مستحقاتنا منذ حوالي 3 سنوات، كما أن المصارف لا تسمح لنا بسحب أكثر من عشرة ملايين ليرة في الشهر أي ما يعادل نحو مئة دولار، والمشكلة الكبرى فيما لو احتاج المسن إلى دخول مستشفى، إذ نضطر للجوء إلى المحسنين لتغطية تكاليف الاستشفاء”.
يحتضن دار الرعاية المارونية كما يشرح مارون لموقع “الحرة” “حوالي 80 مسناً، هم في خطر مثل غيرهم من كبار السن في مختلف دور الرعاية، فإذا لم يتم انتخاب رئيس جمهورية وتشكل حكومة تنظر في القضايا الاجتماعية والخيرية والإنسانية، سنشهد إغلاق عدد كبير من هذه الدور، ولولا الخيّرين لكان مركزنا أغلق أبوابه منذ أربع سنوات، كون لا محفزات من قبل الحكومة لكي نتمكن وغيرنا من الاستمرار، ومع هذا ما نزال نحافظ على جودة خدماتنا”.
عدم حصول مؤسسات الرعاية الخاصة بكبار السن على ما يكفيها من الموارد المالية، دفع عدداً كبيراً منها بحسب سعيد إلى “خفض عدد المسنين الذين تستقبلهم أو إلى رفع فاتورة إقامتهم لديها، في وقت لا يوجد في لبنان رعاية منزلية لهم، مع العلم أنه من المتوقع أن ترتفع نسبة كبار السن في لبنان إلى 14 و23.3 في المئة على التوالي بحلول عامي 2030 و2050”.
كبار السن هم المحرك للعجلة الاقتصادية في البلدان المتحضرة، كما تشدد الأستاذة الجامعية “كون لديهم متسعاً من الوقت للسياحة والقيام بنشاطات والمشاركة في المجتمع. أما في لبنان، وفي ظل الأزمة الحالية وغياب أي أمن مالي لكبار السن، انتفت الشيخوخة النشطة التي تتطلب إدراكاً واستقلالاً جسدياً ومادياً، والحل يكمن بإعادة دور مؤسسات الدولة، ووضع خطة تعافي تأخذ بعين الاعتبار السياسات التي تحسن نوعية حياة كبار السن. فمهما يكن الدور الذي يلعبه المجتمع المدني حاليا فلا غنى عن دور الدولة والوزارات المسؤولة عن كبار السن”.