الرقص الشرقي بلبنان… عصر ذهبي أكله الصدأ
غزو من الأجنبيات التهم ما تبقى من تاريخ لبناني في عالم الرقص الشرقي بعد عقود بدأت بالبهجة والمتعة قبل الانتقال إلى مرحلة الاستقلالية كفن شامل مستنداً إلى استعراض الجسم. ففي جميع مراحل تطوره بين مصر ولبنان استطاعت راقصات محترفات كثيرات الذهاب به إلى مناطق أخرى وتغيير صورته حول العالم عندما رسمت كل منهن خطاً خاصاً بأداء مميز وراق وحركة خفيفة منضبطة مع الإيقاع الموسيقي.
على مدى أعوام طوال، لمعت أسماء كثيرة في مجال الرقص الشرقي، لكن على رغم أنه مر بحقب ذهبية محققاً انتشاراً واسعاً، واجه تحديات أيضاً بسبب النظرة السلبية إليه في عدد من المجتمعات ولارتباطه بمبدأ الإغواء.
أما خلال السنوات الأخيرة، فحقق الرقص الشرقي انتشاراً في العالم بحيث بلغ عدد محترفاته الملايين، في مقابل تدهور واضح في المجال بالبلاد العربية التي نشأ منها بعد حقبة ذهبية في تسعينيات القرن الماضي.
انطلاقة مصرية
خلال العصور القديمة، سواء في مصر أو غيرها من الحضارات، ظهر الرقص الشرقي كوسيلة هدفها تأمين المتعة للملوك والحكام، وبرز بشكل خاص بداية القرن الـ19، عندما هربت نساء من الغجر إلى الشرق واحترفن الرقص في مختلف المدن المصرية وعرفن بـ”الغوازي”.
اعتبرت الراقصات اللاتي من جنسيات أخرى دخيلات على الرقص الشرقي، فيما ظهرت “العوالم” اللاتي كن أكثر اطلاعاً على الآلات الموسيقية والألحان ولهن طريقة مختلفة في الرقص باتزان.
احتفظت مصر بالريادة في فن الرقص الشرقي فمنها نشأ وأصبح متوارثاً بين الأجيال كأي حرفة، وعندما قدمت الراقصة فاطمة جميل عام 1896 عروضاً راقصة، أظهرت جوانب من الشرق في معرض شيكاغو العالمي، وكان هذا أول أشكال توثيق الفن الصاعد في الشرق، وإن كان رقصها أقرب إلى الغجري البعيد من الإيقاع.
خلال مرحلة لاحقة، مع الانتشار الذي حققه الرقص الشرقي في حفلات الزفاف والطبقة العليا بمصر، انطلقت صالات عرض الفنون ومنها “كازينو بديعة مصابني” الذي أخرج معظم نجوم التمثيل والفن مثل سامية جمال.
غيرت مصابني شكل الرقص وطورت الأداء الحركي والقدرة على التمايل مع الإيقاع وعلى التعبير ببراعة، وكانت هذه بداية الرقص الشرقي بشكله الحالي الذي يمزج بين حركة الجسم والتعبير عن المشاعر.
شيئاً فشيئاً أصبحت للرقص الشرقي قواعده وباتت السينما تحتفي بالراقصات، فلكل راقصة مدرستها الخاصة وقدراتها التي تتميز بها، ولمعت أسماء في عالم الرقص الشرقي مثل تحية كاريوكا وسامية جمال التي مزجت بين الأداء الشرقي والغربي. وظهرت نعيمة عاكف التي جمعت بين الرقص الشرقي وحركات السيرك البهلوانية وشفيقة القبطية التي كانت من أشهر الفنانات وقتها.
بين الأربعينيات والستينيات كان الرقص الشرقي فناً يحظى بتقدير الكل، لكنه أصبح بعدها وصمة لمن تحترفه، وإن كان قد لمع نجم راقصات في العقود الماضية مثل فيفي عبده ونجوى فؤاد ودينا ولوسي.
حقبة ذهبية
في لبنان عرفت حقبة الفن الجميل تقدماً مهماً على مستوى الرقص الشرقي، واعتبر من أبرز الفنون بتوقيع راقصات محترفات حققن النجومية أمثال نادية جمال وهويدا الهاشم وكارينيه وأماني وسمارة وداني بسترس وناريمان عبود، وتركت كل منهن بصمة في هذا المجال بعدما رسمت خطاً خاصاً تميزت به، وقدمن لوحات راقصة طبعت في الذاكرة في تلك الحقبة الذهبية.
وقدمت الراقصات المحترفات في لبنان الرقص الشرقي ضمن عمل استعراضي يواكب متطلبات العصر، في مواجهة النمط التقليدي والروتيني لاعتباره أصبح مستهلكاً حتى إنهن استطعن منافسة المصريات مع الاحتراف الفني للرقص وبعدما نقلنه إلى مكان آخر بلمسات متجددة خاصة تكرس الرقص الشرقي حينها فناً جماهيرياً وأساسياً.
تعود راقصة الباليه جورجيت جبارة بالذاكرة إلى الوراء مع صديقة العمر نادية جمال التي شكلت حالة خاصة في المجال بأسلوبها الراقي في الرقص فتقول “تأثرت نادية بوالدتها، وقد ترعرعت في أجواء المسرح، وبدأت في مجال الرقص منذ عمر 14 سنة. وبعد أعوام قليلة، سنحت لها فرصة الرقص في المكان الأهم والأشهر للرقص في Pont Rouge، مما شكل سابقة”.
أسست نادية مدرسة للرقص في الولايات المتحدة قبل أن تطلق أخرى في لبنان، لتنقل أسلوبها الراقي في الرقص الذي لا يشبه أسلوباً أخر ولتعلم الطرق الصحيحة. “شكلت بالفعل حالة خاصة، ولهذا استطاعت أن تترك بصمة في مجال الرقص الشرقي على صعيد عالمي كراقصة لبنانية. وكانت أول راقصة تقدم هذا الفن في أوبرا فيينا أمام الملوك والرؤساء”.
أما أسلوبها الراقي في الرقص، فاكتسبته من والدتها التي كانت علمتها الباليه الكلاسيكي طوال أعوام، وهي الطريقة التي بدأت بها صداقتها مع جبارة. وفيما تابعت جبارة في مجال الباليه الكلاسيكي، اتجهت نادية جمال نحو الرقص الشرقي.
منذ ذلك الوقت استطاعت تقديم صورة رائعة للرقص الشرقي في لبنان والعالم بأسلوب فريد من نوعه جمعت فيه بين الطريقة الشرقية ولوحات الباليه التي منها انطلقت في بداياتها، حتى حققت نجاحاً باهراً.
من جهتها ومنذ انطلاقتها في مجال الرقص الشرقي رسمت الراقصة أماني طريقاً مختلفاً عندما أعطته بعداً ثقافياً. ففي لقاء معها، أشارت إلى أن بداياتها في المجال كانت بعد الحرب الأهلية في لبنان. حينها كانت هناك فورة في عالم الفن وتميزت تلك الحقبة بوجود الراقصة نادية جمال التي تركت بصمة لأنها احترمت فنها واستطاعت أن ترتقي به إلى مجال أعلى.
تابعت أماني دراستها الجامعية في مجال علم الاجتماع بناء على طلب أهلها حتى وافقوا على دخولها مجال الفن، لكن بقي الرقص شغفاً وحلماً لها، فعادت إليه بدعم من الإعلامي الراحل جورج إبراهيم الخوري.
تصف أماني الرقص الشرقي على طريقتها الخاصة مؤكدة أن عشقها له كان بموازاة حبها للتاريخ والأدب، ولتاريخ الرقص الشرقي بشكل خاص، إذ رأت فيه استعادة لتلك الأجواء الجميلة التي تجذبها فعلاً، لكن كانت لها رؤية مختلفة للرقص عما هو موجود، سواء سابقاً أو اليوم.
بين الأمس واليوم
بحلول تسعينيات القرن الماضي، عكست الأجواء في مجال الرقص الشرقي الأوضاع الاجتماعية التي كانت سائدة، بما يختلف عما نشهده حالياً في هذا المجال، فكانت هناك قيم وحدود سواء اجتماعياً أو في مجال الرقص الذي بدا أكثر تحفظاً والتزاماً بحدود الأدب بالمقارنة مع أيامنا الحالية، فكان الرقص فناً بعيداً من الابتذال.
نادية جمال وتحية كاريوكا وسامية جمال ونعيمة عاكف كلهن شكلن إضافة إلى فن الرقص الشرقي ورسمن صورة مختلفة ومميزة له، كما كان لكل منهن خط خاص بها. أما بديعة مصابني، فكانت أول راقصة تؤسس المسرح الاستعراضي وأحدثت تطوراً مهماً في الرقص الشرقي على طريقتها.
استوحت أماني من تلك الفنانات وتعلمت من كل واحدة منهن شيئاً لتبدأ على طريقتها الخاصة، ثم انتقلت إلى عالم الاستعراض المسرحي بعد التمرس في الرقص الشرقي. وعام 1992 أطلت على شاشة التلفزيون برقصة “العباسة” شقيقة هارون الرشيد لتنقل فيها الصراع الداخلي الذي تعيشه بين الموت بعد حبيبها أو الاستمرار في الحياة.
نقلت الرقصة مشهدية تاريخية في أسلوب راقص متجدد وكانت هذه نقلة نوعية في مجال الرقص الشرقي بلبنان بعدما أعطته طابعاً ثقافياً في إطار قصة، وقدمت خلال أربعة مواسم متتالية استعراضها الخاص في حكايات بأسلوبها المميز المستند إلى السرد التاريخي، جمعت فيها بين الثقافة والرقص الشرقي، فكان له طابع مختلف.
وبحلول عام 1999، قدمت عرض “أماني حول العالم” ذات الطابع المسرحي أيضاً في لوحات راقصة من ثقافات من مختلف أنحاء العالم واعتمدت على المسرح والاستعراض لتقديم لوحات الرقص الشرقي بعيداً من الأجواء الشعبية.
هنا نجحت في نقل الرقص الشرقي من أماكن محددة حصر فيها طوال أعوام إلى المسارح، كما أسست جمعية “الرقص الفولكلوري والرقص الشعبي” لتخرج من إطار الرقص الشرقي التقليدي، لذلك شكلت حالة خاصة في المجال.
في المقابل، لم تحظَ المحاولات الجديدة خلال الأعوام الأخيرة بنفس الزخم والنجومية، ولم تستطع الوجوه الجديدة التي ظهرت أن تعيد إلى الأذهان صورة الفن الجميل في المرحلة الذهبية منتصف الثمانينيات والتسعينيات. وبقيت النجومية خافتة وزال وهج هذا الفن تدريجاً، فشهدنا انحساراً في موجة الراقصات الشرقيات في لبنان مع بداية القرن الحالي، على رغم أنه كان موطناً لهذا الفن بعد مصر التي منها انطلق في خمسينيات القرن الماضي إلى بداية القرن الحالي.
تتذكر أماني في ذلك ما قاله لها الإعلامي الراحل جورج إبراهيم الخوري يوماً “ما من رقص مبتذل بل هناك راقصة مبتذلة”. فالراقصة تقدم شخصيتها على المسرح لأن الفن يعكس شخصية من تقدمه فتظهر طبيعتها في أي وقت من الأوقات. وفي كل الأزمنة، هناك فن مبتذل أو ما يعرف بـ”الفن الهابط” بوجود من يقدمونه وآخرون يقدمون فناً راقياً.
في الواقع، اختلفت المعايير في لبنان حالياً بوجود وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً، سواء كان الفنان راقياً أو مبتذلاً، يدخل إلى المنازل بوجودها، وهنا الخطورة في أيامنا هذه، فكان للفنانين المبتذلين، تحديداً الراقصات، أماكنهم الخاصة.
أما اليوم، فيحقق الابتذال انتشاراً عبر وسائل الإعلام التي تسلط الضوء عليه ووسائل التواصل الاجتماعي بغياب الضوابط، وهذا لا ينطبق على الرقص فحسب، بل على الغناء أيضاً وعلى مختلف جوانب الفن. ففي ظل الفوضى العارمة تحول الرقص الشرقي باتجاه الإغواء وكوسيلة للتسلية ليس إلا، كما تشير أماني، ففقدت فيه النظم والأصول وتحول إلى مجرد عرض جسدي.
وما أسهم أيضاً في تدهور هذا المجال وغياب الراقصات اللاتي يلمع نجمهن، التكرار الزائد الذي أفقد الرقص الشرقي قيمته فلا يمكن أن تلمع إلا من تحرص على التجدد، ولا مكان لمن يغرق في فخ التكرار، كما في أي مجال آخر، لذلك بعد تلك “الفورة” في عالم الرقص الشرقي عندما لمعت أسماء في سماء هذا الفن، شهدنا تدهوراً واضحاً بعدنا كثرت الراقصات بشكل فوضوي.
غزو الأجنبيات
عندما بدأت أماني تقديم ورش عمل في لبنان وخارجه لتعليم الرقص الشرقي للأجنبيات، بدا اندفاعهن نحو هذا المجال لافتاً لتعلم التقنيات الصحيحة. وعن ذلك توضح “ليس صحيحاً ما يقال إنهن لا يملكن الإحساس أو التقنيات، فهن أكثر التزاماً في التدريبات، في المقابل ربما يفقد الإحساس ومعه التقنيات الصحيحة لدى راقصات شرقيات حالياً من بلاد الرقص الشرقي، فيكتفين بعرض أجسامهن، إذ سعت الأجنبيات خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة إلى التعرف إلى ثقافتنا والفولكلور اللبناني ويتعاملن بجدية وشغف مع هذا فيبرعن فيه أكثر ممن هن من بلادنا”.
وتضيف “من المؤسف أنه تحول إلى فن راقٍ للأجنبية التي ترقص بإتقان وحرفية وتسعى إلى التطور، فيما تحول إلى عرض للجسم للراقصات العربيات وبات مجالاً لجني المال. ملايين من الأجنبيات سلكن مجال الرقص الشرقي”.
اندبندنت