الإيرانيون مرتاحون في لبنان… وسيتعبون واشنطن!
لا يبدو الإيرانيون مستعجلين في سعيهم إلى تكريس نفوذهم في لبنان. فالفسيفساء اللبنانية هي نموذج مثالي لتطبيق «نموذج السجادة» الذي يبرعون في استخدامه: لا ضير في الصبر لسنوات، أو عشرات السنين، من أجل تشكيل اللوحة المنشودة.
يعتقد الإيرانيون اليوم أنّ عامل الوقت ملائم لمصالحهم في الشرق الأوسط عموماً، ولبنان وسوريا خصوصاً. بل إنّهم يشعرون بنشوة الانتصار.
لقد انتقلوا من كونهم الطرف الإقليمي المحَاصر، المستهدف بضربةٍ أميركية- إسرائيلية محتملة، والمحاط بجيران عرب لا يتحرّكون إلا بإشارة واشنطن، ليصبحوا اليوم قوة إقليمية يَعقد معها العرب صفقات كبيرة، ويهادنها الغربيون، ويبحث الأميركيون عن سبيل إلى مفاوضتها مجدداً، فيما يخشى الإسرائيليون ضربها أو يعجزون عن القيام بذلك لأسباب عديدة.
هذا الرهان على عامل الوقت اشتهر به الرئيس حافظ الأسد في لبنان أيضاً. فمراراً أورد لهذه الغاية مَثَل «التفاحة». فثمرة التفاح يُدفَع ثمنها غالياً عندما تكون في حال جيدة. ولكن، يوماً بعد يوم، يتراجع الثمن. وإذا تُرِكت لتهترئ، فإنّ صاحبها يكون مستعداً لدفع المال إلى من يأتي ويأخذها ويريح من اهترائها. وهكذا، كان لبنان وما زال «يهترئ»، «مراراً»، وعن قصد، ليقول الغربيون والعرب للأسد: «خذه على عاتقك وريِّحنا»!
اليوم، يضع الإيرانيون ضوابط قاسية للتسوية في لبنان، ولا يمكن أن تمرّ الحلول من دونهم. وفي أي حال، لا شيء يدفعهم إلى الاستعجال. وهم حالياً، في لبنان وسوريا والمنطقة، أفضل بكثير مما كانوا قبل عام أو اثنين أو ثلاثة. وفي الواقع، هم أجبروا الخصوم على التنازل لهم. وفي دمشق، جاء العرب إلى الرئيس بشّار الأسد وأعادوه إليهم، بل عادوا إليه وليس العكس.
في العام 2014، عندما قرّر «حزب الله» إيصال مرشحه إلى رئاسة الجمهورية (ربما كان العماد ميشال عون أو سواه في البداية)، أبقى موقع الرئاسة شاغراً نحو عامين ونصف العام ليتحقق له ذلك. ولذلك، يمكن القول إنّ فترة الأشهر الستة التي مرّت حتى اليوم يمكن أن تكون مجرد تمهيد لأزمة طويلة مماثلة.
ثمة فرضية مفادها أنّ هذه الإطالة مستحيلة في ظلّ الانهيار المالي والاقتصادي والنقدي المتفاقم منذ 4 أعوام، والاهتراء المتزايد في وضع الإدارة والمؤسسات. لكن هذه الفرضية قد لا تكون في محلها، لأنّ الانهيار والاهتراء مطلوبان لبلوغ اللحظة التي يصبح فيها الجميع مستعدين للاستسلام والقول: فلتتولَّ إيران و»حزب الله» ودمشق إدارة هذا البلد المعقّد، المسمّى «لبنان»، بضوابط شكلية، وعندئذٍ سنرتاح.
ويعتبر الإيرانيون أنّهم باستراتيجية «حياكة السجادة» أسقطوا جبهتين من الخصوم، وتبقى جبهة ثالثة في وجههم:
1- تعِب العرب أولاً، فخسرت المعارضة معركتها في سوريا، ولم تأخذ أي قوة دولية أو إقليمية على عاتقها ضرب إيران أو مواجهتها إلّا بالبيانات والتهديدات الفارغة المضمون. ولذلك، انسحبوا من تحت جناح واشنطن ووافقوا على أن ترعى بكين اتفاقاً لهم مع إيران.
2- تعب الأوروبيون ثانياً، فآثروا البحث عن مصالحهم في المنازلة التي تريدها الولايات المتحدة مع إيران، والتي ظهروا فيها عاجزين عن اتخاذ قرار بالانسحاب إلى مسافة أكثر توازناً. وحرب أوكرانيا نموذج ملتهب للعلاقة المعقّدة مع الأميركيين. فالأوروبيون يريدون ضمناً إنهاء النزاع هناك بأقل ما يمكن من الخسائر، لكن واشنطن تريد انتصاراً كاملاً على موسكو.
وهذا التعب الأوروبي، الدافع إلى البحث عن المصالح خارج دائرة واشنطن، عبّرت عنه مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الهادفة إلى إنهاء الشغور في موقع الرئاسة في لبنان، والتي مالت إلى القبول بالمرشح الذي يدعمه «حزب الله». فباريس تعتقد أنّ «الحزب» سيبقى الأقوى في لبنان، وأنّ من العبث تسويق تسوية لا ترضيه.
وأما الجبهة الثالثة، التي ما زالت إيران تواجهها، فهي الولايات المتحدة. ويراهن الإيرانيون على أنّ واشنطن ستتعب في النهاية كما سواها، وتسلّم بدور لهم. وكي يتحقق ذلك، لا بدّ من الرهان على الوقت.
ولكن، هل سيسلّم الأميركيون فعلاً بنفوذ إيران في لبنان- وفي سوريا على الأرجح- كما سلّم العرب والأوروبيون بهذا الدور حتى الآن؟
توحي أجواء العاصمة الأميركية أنّ دوائر القرار بدأت في الايام الأخيرة تصعيداً ضدّ طاقم السلطة في لبنان، بهدف إحباط عملية كسب الوقت التي تستثمرها إيران وحلفاؤها. لكن واشنطن لا تملك الأدوات الفاعلة عملانياً لإضعاف حلفاء إيران الأقوياء. وعلى رغم التجارب التي جرت منذ العام 2019 وما قبله، بما فيها العقوبات وحراكات الشارع والانتخابات النيابية، فإنّ نفوذ «الحزب» تزايدَ تدريجاً.
ولذلك، تراهن طهران اليوم على أنّ واشنطن هي التي ستتنازل أخيراً، ما دامت غير قادرة على حسم المعركة لمصلحتها. لكن البراغماتية الأميركية تقتضي غير ذلك: رفعُ منسوب الضغوط على إيران إلى الحدّ الأقصى ثم جذبها إلى التفاوض في الموقع الضعيف. لكن إيران تمتلك القدرة على المناورة لفترات طويلة، ولا شيء يضطرها إلى السير في تسوية لا تريدها.
هذا يعني أنّ المراوحة في لبنان مستمرة، لأنّ أحداً ليس مستعداً للتنازل للآخر. ولأنّ الوجع لا يصيب إلا اللبنانيين وحدهم، دون سواهم، فإنّ لعبة الرهان على الوقت والاهتراء تبدو طويلة جداً.
طوني عيسى- الجمهورية