ثورة الذكاء الاصطناعي ربيع البشر أم خريف الأرض؟

منذ الوهلة الأولى للحياة على كوكب الأرض لم يتوقف سعي البشر وراء التطور لتسهيل الحياة وجعلها أكثر مرونة قبل أن يتحور الهدف الرئيس إلى جعل الحياة أكثر رفاهية، فمن الأداة الأولى الحادة للصيد وقطع الأشجار وشق الطرق وتفتيت الصخر مروراً باكتشاف النار والكهرباء مدفوعاً بالثورة الصناعية الأولى والثانية واكتشاف النفط والغاز، وصولاً إلى المركبات الفضائية والإنترنت تحت ضغط ثورات أخرى حتى الثورة الصناعية الرابعة.

أهداف مشروعة

البحث عن الأمن والأمان كان غاية الإنسان الأول ثم تأمين مصادر المأكل والمشرب إلى تليين الحياة وتنعيمها قبل استهداف الربح والأموال.

ما سبق ما هي سوى أهداف مشروعة، إلا أن الإنسان من دون قصد أو عمد تسبب في الأضرار ببيئته المحيطة فثقب طبقة الأوزون الواقعة عالياً في الغلاف الجوي التي توفر لنا الحماية من معظم أشعة الشمس فوق البنفسجية الضارة، مع تطور إيقاع الحياة وزيادة انبعاث الكربون، إذ وجد عدد من الباحثين أن نحو ثلث حجم الاحترار العالمي الذي سجلته الأرض خلال الأعوام الـ70 الماضية يعزى إلى تغيرات شهدتها مستويات غاز الأوزون في طبقتين من الغلاف الجوي للكوكب الأزرق.

في الحقبة الزمنية الحالية التي يعيشها البشر ينعمون بالتقنيات الحديثة المتقدمة التي سهلت أعمال الدول والمنظمات وحتى الأفراد في مهمات التخطيط ووضع الإستراتيجيات، مما زاد من معدلات التحول الرقمي، لتنبثق من ذلط تقنيات جديدة أطلق عليها “الذكاء الاصطناعي”.

الثورة الصناعية الخامسة

ويعتبر المتخصصون أن الاندفاع المتسارع بشكل غير مسبوق نحو تقنيات الذكاء الاصطناعي يعد تبشيراً بثورة صناعية خامسة أبرز أهدافها الدمج الدقيق بين البشر والتكنولوجيا بعناية فائقة.

وتستند الثورة الصناعية الجديدة إلى هدف أوحد غرضه الدمج التام بين الإنسان والآلة، إذ سيساعد الذكاء الاصطناعي في زيادة إنتاجية العمل البشري، بل ستساعد الروبوتات البشر في تحقيق عوائد استثمارية هائلة.

التجارب على هذا الكوكب أثبتت أن لكل ثورة مزايا هائلة أسهمت في ليونة الحياة ولكن لكل رفاهية ثمن ومساوي، بعدما تدخلت بشكل مباشر أو غيره في نواميس المناخ بل غيرته وبدلته مع ارتفاع درجة حرارة الكوكب الأزرق.

أضرار الثورة الآنية تلك المرة ربما تفوق البيئة المحيطة بالبشر، إذ إن الهدف قد يكون البشر أنفسهم مع تسارع تقنيات الذكاء الاصطناعي بحسب التوقعات.

الهاجس الأول للثورة الجديدة يتعلق بسوق العمل والخوف من أن تحل التكنولوجيا محل البشر في القوى العاملة، وما غزى تلك المخاوف تسارع وتيرة تسريح العمالة الذي بدأ بالفعل في شركات عملاقة، إذ سرحت جزءاً كبيراً من موظفيها بعدما اطمأنت لموظفين جدد من الروبوتات.

تسريح العمالة وانقراض للبشرية

خوف الإنسان في محله تماماً، إذ إن مطاعم عدة تقدم الوجبات السريعة مثل “ماكدونالدز” و”تاكو بيل” و”دومينوز بيتزا” تستخدم بالفعل الذكاء الاصطناعي، وتشير التوقعات إلى أن تطور الذكاء الاصطناعي ربما يقضي على أكثر من 300 مليون وظيفة بشرية، مما يخلق اضطراباً غير مسبوق.

تحذيرات المتخصصين لم تقف عند حد سوق العمل، بل إن الأمر أصبح أخطر، إذ حذرت مجموعة من كبار رجال الأعمال والمتخصصين من بينهم مبتكر برنامج “تشات جي بي تي” سام ألتمان في بيان نشر على الإنترنت أمس الثلاثاء من أن صعود الذكاء الاصطناعي ينطوي على خطر “انقراض للبشرية”.

ورأى موقعو البيان الذي نشر على الموقع الإلكتروني لمنظمة “سنتر فور أي آي سايفتي” غير الربحية التي تتخذ الولايات المتحدة مقراً أن “مكافحة الأخطار المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ينبغي أن تكون أولوية عالمية كسواها من الأخطار الأخرى على مستوى المجتمع كالأوبئة والحروب النووية”.
وسبق لجيفري هينتون الذي شارك في توقيع البيان ويعتبر أحد الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي أن حذر من أخطاره عندما ترك منصبه في شركة “غوغل” العملاقة في مطلع مايو (أيار) الجاري.

وشدد عبر صحيفة “نيويورك تايمز” على أن التقدم في قطاع الذكاء الاصطناعي يشكل “أخطاراً جسيمة على المجتمع والإنسانية”.

قبل تحذيرات هينتون، تحديداً في مارس (آذار) الماضي، دعا مئات من المتخصصين العالميين من بينهم الملياردير إيلون ماسك الذي كان بين مؤسسي شركة “أوبن أي آي” عام 2015 وترك مجلس إدارتها في 2018، إلى التوقف لستة أشهر عن إجراء أبحاث ترمي إلى التوصل لتقنيات ذكاء اصطناعي أقوى من “تشات جي بي تي”، معربين عن تخوفهم مما تحمله هذه التكنولوجيا من “أخطار كبيرة على البشرية”.

إلى ذلك شكل إطلاق “أوبن أي آي” في مارس الماضي “تشات جي بي تي-4″، وهو إصدار جديد أقوى من “تشات جي بي تي” الذي أتيح استخدامه في نهاية 2022، مؤشراً إلى الانتشار السريع للذكاء الاصطناعي الآخذ في اكتساب الطابع “العام” والذي يوفر قدرات معرفية بشرية ويغني تالياً عن مهن عدة.

أضرار جسيمة بالعالم

في غضون ذلك يواظب الأميركي سام ألتمان على إبداء مخاوفه من إمكان إلحاق الذكاء الاصطناعي “أضراراً جسيمة بالعالم”، من خلال تزوير نتائج عمليات انتخابية مثلاً، أو إحداث تغييرات جذرية في سوق العمل.

المزايا أيضاً التي يوفرها الذكاء الاصطناعي لا يمكن تجاهلها فالإنسان دائماً يلهث وراء الربح وهو حق مشروع، ففي مواجهة هؤلاء يرى رئيس شركة “نفيديا” جنسن هوانغ أن العالم بات أمام “نقطة تحول في عصر الحوسبة الجديد”، وعرض في أول كلمة يدلي بها على الملأ منذ أربعة أعوام، خلال مشاركته في معرض “كومبيوتكس” للتكنولوجيا في تايوان، مجموعة منتجات متعلقة بالذكاء الاصطناعي.

قفزة في أرباح “نفيديا” 25 في المئة

وحققت الشركة التايوانية- الأميركية المصنعة للرقائق الإلكترونية التي تحظى باهتمام كبير منذ طفرة الذكاء الاصطناعي، قفزة في قيمتها السوقية بنسبة 25 في المئة إلى ما يقرب من تريليون دولار بعد نتائج ربع سنوية مدعومة بطلب كبير فاق التوقعات بكثير الأسبوع الماضي.

وتعد رقائقها مكوناً رئيساً في ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدية وهي قادرة على توفير أجهزة الحوسبة اللازمة لسيل المحتوى المعقد في ثوان من مراكز البيانات حول العالم.

وقال رئيس “نفيديا” أمام جمهور صغير “لم ألق خطاباً عاماً منذ أربع سنوات “تمنوا لي التوفيق”، مضيفاً “لقد وصلنا إلى نقطة تحول لعصر جديد للحوسبة”.

ومن بين المنتجات الجديدة المعروضة، منصة كمبيوتر عملاق للذكاء الاصطناعي تسمى”DGX GH200″، قال هوانغ إنها “الآن في مرحلة الإنتاج الكامل”، مردفاً “يسعدنا أن تكون غوغل كلاود وميتا ومايكروسوفت الشركات الأولى في العالم التي يمكنها الوصول إلى هذه المنصة”.

أفكار مبتكرة لحملات المعلنين

لم تتوقف مزايا الذكاء الاصطناعي عند حد تحقيق الأرباح فحسب، بل إنها تسهم في الوقت الحالي في وضع أفكار مبتكرة لحملات المعلنين، فضلاً عن إسهامها في تطوير قطاع الإعلانات من خلال أساليب ومهارات جديدة.
فقد تعاونت شركة “كوكا كولا” العملاقة مع “أوبن أي آي”، الشركة الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي والمطورة لبرمجية “تشات جي بي تي”، في مسابقة عن “الصور الإبداعية” التي تمثل أكثر المشروبات الغازية شهرة.
كما ذهبت ماركة الأزياء الإسبانية “ستراديفاريوس” التابعة لمجموعة “إنديتكس” إلى حد ابتكار ملابس خيالية مستوحاة من مجموعتها مع سلسلة صور تمثل عارضات بأزياء منمقة تبدو كأنها مندمجة مع الخلفية.
ويقول فرناندو باسكوال، نائب رئيس التصميم في شركة “سيدتاغ” الإسبانية المتخصصة في ما يسمى الإعلان “السياقي” لوكالة الصحافة الفرنسية “لا نزال في البداية”.

وأطلقت الشركة الإسبانية أخيراً إمكانية تعديل خلفية الإعلانات تبعاً للصفحات الإلكترونية، إذ يتم عرض على سبيل المثال، مبان في الخلفية للترويج لسيارة على موقع اقتصادي، ومنزل وأرجوحة في بيئة عائلية أكثر.
ويعلق باسكوال قائلاً “يظل العنصر الرئيس للإعلان حقيقياً”، مضيفاً “نحن فقط نساعد عملاءنا ليكونوا أكثر ارتباطاً بالموضوع”.

تكنولوجيا الإعلانات

ولجذب انتباه الجيل الجديد مع اقتراب فصل الصيف، استخدمت العلامة التجارية الفرنسية للملابس الداخلية “أونديز”، المتفرعة من مجموعة “إيتام”، الذكاء الاصطناعي لتوليد صورتين لعارضتي أزياء تتحركان تحت الماء بملابس السباحة.

من بين هذه الملصقات الـ3000 التي وضعت في جميع أنحاء البلاد، وحده لباس البحر صور ثم تمت إضافته إلى الصورة، وكل شيء آخر طور بواسطة الذكاء الاصطناعي.

وتقول مديرة الشركة الفرنسية “أونديز” إيسولد أندوار لوكالة الصحافة الفرنسية “كان الهدف الخروج بنتيجة مثيرة للفضول إلى حد ما”، وتوضح مديرة التسويق في هذه العلامة التجارية ماري داردايرول “هناك مصورون يلتقطون صوراً ممتازة تحت الماء ولكن، على الشاشة، من شبه المستحيل أن نحصل على نتيجة جميلة على صعيد شكل الوجه والمنتج والإضاءة واللون الأزرق”.

في هذا الإطار، ثمة مشكلة تكمن في حظر التعري على أداة “ميدجورني” المستخدمة لإنشاء النسخة الأولى من المحتوى البصري، مما يعني “عدم إمكان إظهار أجساد في ملابس السباحة أو الملابس الداخلية”، وفق أندوار، لذلك كان من الضروري الاستعانة بمطورين وخبراء يعرفون كيفية “التحدث” إلى الذكاء الاصطناعي للحصول على “جسم في ملابس سباحة سوداء”.

تسببت الحملة في ما سمي “انتفاضة” لدى أوساط العارضين ومصوري الأزياء، بحسب إيسولد أندوار التي تشدد على أن “القصد من الخطوة لم يكن تقليل كلفة النشاط الإبداعي، إذ إن الصور المطورة بالذكاء الاصطناعي تكون مصحوبة بصور تقليدية أكثر”.
وبحسب أوليفييه بومسيل، لن يحل الذكاء الاصطناعي محل العارضات لأن “الصور التي يتم استغلالها في الذكاء الاصطناعي ستؤدي إلى ملكية فكرية لا تقل قيمتها عن الاستعانة بعارضات”، مضيفاً أنه “في كل مرة يتم فيها استخدام الشخصيات الحقيقية في عوالم افتراضية، فإنهم يحصلون على حقوق الصورة”.

في السياق نفسه أعلنت شركة “ليفايس” من جانبها في مارس الماضي عن شراكة مع الاستوديو الهولندي “لالالاند يا” لإنشاء عارضات أزياء بواسطة الذكاء الاصطناعي لتحل محل البشر في متجرها على الإنترنت من أجل الحصول على مزيد من التنوع”.

واضطرت ماركة سراويل الجينز إلى أن توضح سريعاً أن هذه الخطوة لا تعني التخلي عن خططها لجلسات التصوير، أو استخدام العارضين الحقيقيين، أو التزامها العمل مع عارضين أكثر تنوعاً”.

وأدركت صناعة تكنولوجيا الإعلانات التي ركزت، خصوصاً في الآونة الأخيرة على الاستهداف الإعلاني والتسويق على الإنترنت، الحاجة إلى تقديم حلول إبداعية للمعلنين قائمة على الذكاء الاصطناعي.

الدهشة والرعب

السياسة لم تغب ففي تلك الأثناء ألقت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن خطاباً في البرلمان اليوم الأربعاء، كتب الجزء الأول منه بالكامل بواسطة أداة الذكاء الاصطناعي “تشات جي بي تي” لتسليط الضوء على الجانب الثوري لهذه التكنولوجيا التي لا تخلو من الأخطار.

وفاجأت فريدريكسن النواب بعد تلاوة مقدمة خطابها، قائلة “ما قرأته للتو ليس صادراً عني، أو عن أي إنسان آخر”.

وأضافت رئيسة الوزراء الدنماركية “على رغم عدم تحقيق الهدف منه على الدوام، بتفاصيل برنامج عمل الحكومة ما يمكن لـ’تشات جي بي تي‘ أن يفعله يثير مشاعر متضاربة من الدهشة والرعب في آن”.

أندبندنت

مقالات ذات صلة