اللعب على المكشوف: جلسة العار تحمي مسروقات سلامة!
في ملف رياض سلامة الجنائي، بات اللعب على المكشوف، ولم تعد الطبقة السياسيّة تخشى في هذا الملف لومة لائم. الفضيحة الأساس والأهم، لم تعد أنّ حاكم مصرفنا المركزي مشتبه به ومطلوب دولي، ولا أنّ الحكومة اللبنانيّة لا تريد أن تعزل الحاكم من موقعه قبل نهاية ولايته في شهر تمّوز المقبل. وحتّى تقاعس القضاء اللبناني عن تحمّل واجباته في هذا الملف، لم يعد أفدح الفضائح وأكبرها. الفضيحة الأكبر والأخطر، هي أنّ الحكومة تعمل لحماية مسروقات الرجل، عبر منع الدولة اللبنانيّة من تعقّب الأموال المشتبه باختلاسها، وعرقلة أي محاولة لضمان حق لبنان بهذه الأصول، المحتجزة لصالح النيابات العامّة الأوروبيّة.
هذا ما جرى يوم الجمعة الماضي في جلسة الوزراء، التي تسرّبت محاضرها ظهر يوم أمس السبت، وهو ما سيكون جريمة تاريخيّة بحق المال العام اللبناني، وبحق ما تبقى من كرامة لهذه الدولة. أمّا نوعيّة المداولات التي جرت داخل الجلسة، فكانت فضيحة أكبر، لجهة مستوى الجهل وقلّة الإلمام التي تحكم مباحثات شخصيّات تحمل لقب “المعالي”. بأدائها في ملف سلامة، لا يمكن وصف حكومة تصريف الأعمال بأقل من عبارة “حكومة المتواطئين”، ربما باستثناء نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي غسل عن إسمه عار ما يجري بمذكرته الأخيرة، التي طالبت علنًا بإقصاء الحاكم من موقعه بالسرعة القصوى.
فضيحة جلسة الجمعة: حماية أموال سلامة المختلسة
كما بات معلومًا، لم تُدرج حكومة تصريف الأعمال على جدول أعمال جلسة يوم الجمعة الماضي أي بند بخصوص مصير حاكميّة المصرف المركزي، كما لم تتخذ أي إجراء لعزل الحاكم من موقعه قبل نهاية ولايته، في شهر تموز المقبل. وهذه الخطوة الوقحة، تجاهلت مذكرة نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، الذي حذّر بوضوح من خطر الشبهات التي تحيط بحاكم مصرف لبنان، على علاقة لبنان بالمصارف المراسلة والمؤسسات الدوليّة. أمّا الإخراج الركيك لهذه الخطوة، فجاء عبر الطلب من وزير الماليّة، المعروف بموقفه المحابي لحاكم مصرف لبنان، إعداد تقرير يبيّن تداعيات الملاحقات القضائيّة الخارجية بحق حاكم مصرف لبنان.
في المقابل، وبدل عزل الحاكم، ما قامت به الحكومة –في الجلسة نفسها- كان التالي: إقصاء فريق المحامين الذي يعمل متطوّعًا، ومن دون تكبيد الميزانيّة العامّة أي قرش، لملاحقة ملف حاكم مصرف لبنان في فرنسا، وضمان حق الدولة اللبنانيّة في الأموال المشتبه باختلاسها.
مع الإشارة إلى أنّ هذا الفريق كان يعمل بموجب عقد موقّع بشكل قانوني مع وزارة العدل، وبالتعاون مع هيئة القضايا، لمتابعة مسألة أموال سلامة المحتجزة حاليًا لمصلحة النيابات العامّة الأوروبيّة. وبنتيجة هذه المناورة، ستعود الأمور إلى نقطة الصفر، لجهة إبعاد الدولة اللبنانيّة عن ملفّات الحاكم الجنائيّة في أوروبا، تمامًا كما يتمنّى فريق الدفاع عن رياض سلامة.
إنّه التواطؤ الصريح والمكشوف إذًا، وعلى حساب المال العام وإمكانيّة استرجاع الأموال المختلسة. التواطؤ المشبوه جرت صياغته في مقرّرات الجلسة بالعبارات التالية: “قرّر المجلس تكليف وزير العدل، وبالسرعة الممكنة، ووفقًا للأصول، تقديم أسماء جديدة لمحامين فرنسيين للتعاقد معهم لمعاونة رئيس هيئة القضايا في وزارة العدل في الدعوى المُقدمة من الدولة الفرنسيّة أمام قاضية التحقيق الفرنسيّة في ملف آنا كوساكوفا ورفاقها، ولذلك لعدم توافر معلومات وافية وواضحة حول الأسماء المرفوعة” (أي أسماء فريق الدفاع المكلّف الآن بهذا الملف).
أمّا كلفة التواطؤ مع حاكم مصرف لبنان، فستكون التالي: في شهر تمّوز، من المفترض أن يبت القضاء الفرنسي في مصير أموال حاكم مصرف لبنان المشتبه باختلاسها من المال العام، والواقعة تحت الحجز حاليًا في فرنسا. وبعد مناورة مجلس الوزراء الحاليّة، سيتم فرملة عمل الفريق القانونيّ الذي ينسّق مع هيئة القضايا، لحماية حق الدولة اللبنانيّة في هذه الأموال المحتجزة. وهذه “الشربكة” الجديدة، لن تصب إلا في خدمة رياض سلامة، الذي لا يريد للدولة اللبنانيّة أن تأخذ موقع المُطالب بحقوقها، أمام القضاء الفرنسي.
باختصار، ما يريده سلامة، والحكومة اللبنانيّة معه، هو تحييد الدولة اللبنانيّة في الملف الجنائي الفرنسي، كي تزيد فرص فريق الدفاع عن سلامة في إثبات أنّ الأموال المشتبه باختلاسها ليست أموالاً مختلسة فعلًا، طالما أنّ المتضرّر –الدولة اللبنانيّة- لا يطالب أساسًا بهذه الأموال.
“شغل العصابات والمافيات” الوقح هذا، وحماية الأموال المختلسة من قبل الحاكم، يتكامل بشكل مثالي مع فكرة بقاء الحاكم في مركزه حتّى نهاية ولايته. فمجرّد بقاء الرجل في سدّة الحاكميّة، يعني أنّ الدولة لا تعتبر أن الحاكم قد ارتكب بالفعل “خطأ فادحاً في تسيير الأعمال”، كما ينص قانون النقد والتسليف، في المادّة التي تحدد أسباب إقالة الحاكم.
الجهل والخفّة وقلّة المسؤوليّة
لا يوجد عبارات لائقة يمكن أن تصف كميّة الجهل وقلّة المسؤوليّة التي انطوت عليها مداولات الوزراء خلال الجلسة. الحجج الركيكة التي برّرت القرار بدأت باتهام أحد محامي الفريق القانوني، إمانويل داوود، بكونه يهوديًا، وهو على هذا الأساس مشتبه بكونه صهيونيًا يعمل لصالح إسرائيل. المضحك في الموضوع، هو أنّ هذه الحجّة هي نفسها الحجة التي تم استعمالها لإقصاء شركة كرول ومنعها من تنفيذ التدقيق الجنائي في مصرف لبنان، بحجّة كونها شركة تملك علاقات مشبوهة مع إسرائيل (وهذا الكلام كما تبيّن لاحقًا، كان مجرّد هراء).
على أي حال، بعد الجلسة، تبيّن أن داوود هو مجرّد كاثوليكي من أصول جزائريّة مسلمة، ولا علاقة مهنيّة أو سياسيّة له بإسرائيل أو الصهيونيّة، ولا علاقة “دينيّة” له باليهوديّة. وبمعزل عن الخفّة في ربط الأصل اليهودي بالصهيونيّة السياسيّة، كان من الواضح أن ما جرى كان مجرّد حفلة تهييج غبيّة لم تستند إلا إلى الاشتباه بعائلة الرجل، أي “داوود”، والعائدة إلى أصوله العربيّة لا اليهوديّة.
أمّا الحجّة الأسخف والأكثر إثارة للاشمئزاز، فهي اتهام محام آخر في الفريق القانوني، وهو أنطوان أوري، بعلاقة “وثيقة” مع المحامي وليم بوردون، وهو مؤسس ووكيل منظمة شيربا، التي قدّمت الإخبارات ضد حاكم مصرف لبنان. خفّة هذا الاتهام تنبع من استناده إلى كلام فضفاض وفارغ لا يعني أي شيء في عالم القانون، إذ ما معنى “علاقة وثيقة” بالمعنى القانوني البحت؟ وهل هو اتهام فعلًا، إذا كان محامي الدولة على علاقة “وثيقة” بصاحب الفضل في كشف اختلاسات الحاكم، وتحريك المسار القضائي الذي أفضى إلى حجز الأموال المختلسة؟ هل تعتبر الحكومة أن كشف الأموال العموميّة المختلسة وصمة عار أو شبهة؟ هل تعمل الحكومة لحساب المال العام، أو أموال رياض سلامة المختلسة من المصرف المركزي؟
في خلاصة الأمر، ما جرى يوم الجمعة كان فضيحة ستتردد أصداؤها طوال الأسبوع المقبل، خصوصًا بعدما أثار قرار مجلس الوزراء غضب العديد من أعضاء هيئة القضايا، الذين تعاونوا مع المحامين الفرنسيين لحماية أموال الدولة اللبنانيّة المشتبه باختلاسها من الحاكم، والمحتجزة في أوروبا. وعلى هذا الأساس، من المفترض أن يعقد وزير العدل هنري خوري مؤتمرًا صحافيًا يوم الثلاثاء المقبل لتوضيح موقفه من ما جرى، بعدما واجه عاصفة من الاعتراضات والاحتجاجات من داخل بيته في وزارة العدل.
أمّا الأهم، فهو أن ما جرى كشف المستوى المتدني والهابط في الممارسة السياسيّة، لدى أعضاء حكومة المتواطئين، الذين باتوا يعملون اليوم لحساب حاكم مصرف لبنان، ربما خشية منه ومما يعرفه عنهم، بدل أن يعملوا لحساب الشعب اللبناني والمال العام.
علي نور الدين- المدن