انه «الحاكم» وليس «رئيس دائرة»!
قبل أن يخطو لبنان الخطوة القضائية الأولى أمس تلبية لمضمون الادعاء الفرنسي بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، عَاجَله القضاء الألماني بخطوة مؤلمة مِثلها، ان لم تكن أشد إيلاماً. في وقت ظهر عقم المعالجة اللبنانية الى درجة استفزّت كثيراً من الخبراء الماليين والقانونيين المحليين الدوليين المستقلين من غير المستشارين، بحيث اعتقد البعض انهم يناقشون مصير «رئيس دائرة» وليس حاكماً للمصرف المركزي بما يتحمّله من مسؤوليات. وعليه، ما هي القراءة الممكنة لهذه المعادلة؟
قبل الغوص في كثير من التفاصيل التي لا تنتهي عند مقاربة الطريقة التي لجأت اليها المنظومة السياسية في لبنان في مقاربتها لأزمة حاكمية مصرف لبنان، لا بد من العودة الى بداية مسلسل الملاحقات التي تعرّض لها سلامة. ولذلك لا بد من التذكير بأنّ اولى الخطوات التي استهدفته وأفراد من عائلته ومساعديه بدأت في تشرين الأول من العام 2020 عندما افتتح مكتب المدعي العام السويسري أوّل تحقيق جنائي في تعاملاته للتثبّت من «مزاعم غسل أموال بأكثر من 330 مليون دولار من مصرف لبنان المركزي و5 ملايين يورو من خلال عقود ممنوحة لمقرّبين منه».
وبعد فترة وجيزة توسّعت رقعة الملاحقات، فبدأت المحاكم في معظم أنحاء أوروبا تحقيقات تركزت في كل من فرنسا وليختنشتاين ولوكسمبورغ وألمانيا، في محاولة لتحديد ما إذا كانت الأرباح المتأتية من الاختلاس المزعوم للأموال العامة قد تم تحويلها إلى أوروبا، حيث يمتلك الحاكم وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حويك استثمارات كبيرة خصوصا في مجال الشركات والقطاع العقاري. وكل ذلك كان يجري على رغم نَفيه مرارا وتكرارا ارتكاب أي مخالفة من هذا النوع، مؤكداً انّ ثروته مُتأتية من ميراث عائلي واستثمارات انطلقت من استحواذه ما يقدّر بـ 23 مليون دولار قبل تعيينه في تموز عام 1993 حاكماً للمصرف المركزي، وقد جمع نواتها قانونياً أثناء عمله في شركة «ميريل لينش».
ليس في ما سبق مجرد تأريخ لكل أشكال الملاحقة التي تعرض لها سلامة منذ ذلك التاريخ وعقب أسوأ أزمة نقدية ومالية عرفها لبنان نتيجة وقف تسديد الدولة لديونها الخارجية وتخلّفها عن تسديد مستحقات سندات اليوروبوند في 9 آذار من العام 2020، وبفارق شهرين تَلت جريمة تفجير مرفأ بيروت في 4 آب من تلك السنة، وهو ما ادى الى الربط بين الحدثين بهدف صرف الأنظارعن التداعيات الخطيرة للتفجير، والتي كان يمكن ان تؤدي الى الاطاحة بمنظومة كاملة قبل ان يتدخل العالم، وتحديداً الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي وفّر التغطية للمنظومة كاملة كما وفّر لها المخارج السياسية والحكومية التي حالت دون البَت بأي من القضايا الخطيرة التي يعانيها لبنان.
والى هذه المعطيات التي لا يريد ايّ من المسؤولين إعطائها الاهمية، توالت الملاحقات القضائية والقانونية بطريقة ملتبسة ومُسيّسة عمد خلالها اهل الحكم الى استغلالها في المواجهات الداخلية السياسية التي كانت تتحدث عن فشلهم في مواجهة نتائج المجزرة التي خلّفها تفجير المرفأ وما بلغه حجم الأزمة النقدية والمالية من أجل ضمان بقائهم في السلطة ورفض اي منهم تحمّل مسؤولية ما جرى، وسَرَت موجة من الاتهامات المتبادلة شارك فيها معظم من تورّطوا بما آل اليه الوضع فضاعَت المسؤولية، وفرزَ اللبنانيون بين مناصرٍ لهذا او ذاك على خلفيات عدة بقيت من دون نتائج النكبة التي حلت بلبنان واللبنانيين.
وعلى رغم من التحذيرات التي أطلقها مراقبون وخبراء محايدون لفتوا الى خطورة الاتهامات الموجّهة الى سلامة، ناصحين بضرورة مواكبتها بفريق قانوني وجهاز متخصص بعيدا من مواقع أهل السلطة الذين تربّصوا شراً بما قد يمسّ به، عملاً بالقول المأُثور»أُكلت يوم أُكل الثور الابيض». ولذك انقسموا بين من وفّر له الحماية السياسية وأبعدوا ملفه عن السلطة القضائية والقانونية من دون النظر إلى مترتّباتها المالية الخطيرة كونها تطاوِل سمعة لبنان قبل ان تمسّ رأس الجهاز المعني بالنقد الوطني ومناعته وتحديد أولويات التصرف بالاحتياط الإلزامي، لضمان أكبر حجم ممكن من أموال المودعين التي أودعتها المصارف في مصرف لبنان لقاء فوائد عالية، فيما هو استخدمها في تمويل مشاريع الهدر والنهب والسرقة قي المؤسسات العامة والقطاعات الخدماتية الفاشلة التي توقفت عن تقديم ابسط خدماتها كالمياه والطاقة الكهربائية والادوية حتى طاوَلت ربطة الخبز. عدا عمّا ضاع في دهاليز برامج الدعم التي صبّت المليارات منها لمصلحة المحتكرين الذين أبقوها خارج لبنان بطريقة توزّعوا فيها على مختلف ألوان الطيف السياسي والحزبي.
ويعترف المراقبون المحايدون انّ ملف سلامة وُضِع على الرف الاعلى حيث تنتظر القضايا العالقة بُغية استغلالها في اي وقت، تارةً لمصلحة هذا الفريق وتارة لمصلحة ذاك، الى ان انفجرت الازمات مَنعاً من ان «يصل الموس» إلى رقاب كثر من المسؤولين الكبار المتورطين في تبديد المال العام، فيما سعى آخرون الى بطولات وهمية فجمّدت كل القرارات التي كان يمكن ان تلجم الوضع بوجود رئيس للجمهورية قبل نهاية ولايته، والذي كان يمكن ان يقوم بما لم يقم به بحجّة «ما خلّونا»، فيما أمعنَ الآخرون في سياسة المماطلة إلى ان بلغت المواجهات القضائية الدولية المرحلة الاخيرة المتقدمة التي فرضَت عليهم اتخاذ قرارات قاسية لم يعودوا قادرين على اتخاذها بفِعل ما بَلغه الشلل الحكومي.
وتفسيراً لهذه المعادلة، نُقل عن مرجع قضائي كبير قوله واثقاً، انه أمام ما هو قائم من وضع يتّصِل بمصير الحاكم لحكومة تصريف الاعمال لا يمكن إقالته ولا تعيين البديل منه، وما على جميع المعنيين سوى انتظار نهاية ولايته ليتسلّم النائب الأول مهماته شاء من شاء وابى من ابى من المسؤولين. فلا مخرج للازمة من خارج هذه الآلية ما لم يصرّوا على خرق القوانين، وما يقول به قانون النقد والتسليف وبقية القوانين والانظمة ذات الصلة. هذا إن لم يتخذ القضاء قراراً يؤدي حتماً الى تقصير ولاية سلامة ليتسلّم نائبه الأول مهماته من دون ان يسمح بتعيين البديل.
وأمام هذه الوقائع التي لا يرقى اليها اي شك، ما زال أهل الحكم يُمعنون في استخدام الملف في المناكفات السياسية مهما بلغت الكلفة، وان أدّت الى عزل لبنان عن العالم ووقف كل أشكال التعاون بين لبنان والمصارف المراسلة. وما على مَن يتنكّر لهذه المؤشرات سوى رصد مواقف الوزراء والمسؤولين الكبار، لا سيما في الحكومة ومجلس النواب، الذين يتفرّجون على الازمة وكأنّ ما يجري لا علاقة لهم به الى أن تتخذ الاجراءات الفرنسية وبعدها الالمانية مداها الأقصى، مع احتمال ان تُطاوِل قراراتها مسؤولين آخرين هم في اعلى مواقع السلطة اليوم. فملفات بعضهم مفتوحة منذ فترة وقد يكون القضاء الدولي، وخصوصاً الالماني، قد وصلَ الى ما يُثبت تورّط عدد منهم وان لم يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة، فهم في مواقع سلطوية كبرى.
والى تلك اللحظة المفصلية تبقى النتائج السلبية المتوقعة رهناً بالوقت الذي يفصل بين الكشف عن بعضها وقد يكون من بينهما ما يمكن الكشف عنه قبل نهاية ولاية سلامة. ولذلك، يصرّ بعض اهل الحكم على التعاطي مع ملف سلامة مُتناسين انه «الحاكم» وليس «رئيس دائرة» في إحدى المؤسسات العامة.
جورج شاهين- الجمهورية