ماذا نفعل بالسوريين… في برج حمود؟

“ممنوع تصفّ قدام محلي، بتسكّر على باب رزقي”. بهذه الجملة، توجه أحد أصحاب المتاجر الأرمني اللبناني في شارع أراكس، في برج حمود، إلى شاب سوري الجنسية. فرد عليه الأخير “ولو يا جار، دقيقة بس بدي جيب غرض”. ليصرخ صاحب المتجر به قائلاً “لا جار ولا نص دقيقة، هذا باب رزقي، إذا مش عاجبك ارجع على بلدك”. بهذا الحوار المشتعل بين صاحب متجر وسائق دراجة نارية، استقبلتنا منطقة برج حمود، حيث عكس هذا المشهد الواقع المرير الذي يشهده سكان هذه المنطقة من مختلف الجنسيات والطوائف، والذين استجدت عليهم، موجة النزوح الكثيف للسوريين الهاربين من بلدهم.

غلبة سورية؟
ما أن يجتاز واحدنا جسر نهر بيروت، سائراً في شارع أرمينيا، حتى يرى المعالم المعمارية لبداية نشوء المجتمع الأرمني وازدهاره منذ مطالع القرن العشرين. مجتمع حيوي، صناعياً وتجارياً، أضفى على العاصمة وجوارها طابعاً خاصاً وقيمة مضافة، اجتماعياً وثقافياً.

وما كان حيزاً أرمنياً خالصاً، تحول تدريجياً إلى ضاحية تعج بالتنوع السكاني المتداخل ما بين برج حمود والنبعة وأطراف سن الفيل والدكوانة والدورة.

اليوم، بات الخليط الديموغرافي في برج حمود-النبعة أحد أسباب التوتر الأمني البارز في المنطقة، التي تحولت عبر التاريخ إلى ملاذ للاجئين والنازحين، ومقصداً للفقراء اللبنانيين الذين أتوا إليها كما إلى مناطق أخرى في ضواحي العاصمة، بحثاً عن فرص أفضل في العمل والعيش.

لا تزال برج حمود “أرمنية” بلافتات شوارعها ومحالها ومتاجرها وورشها ومؤسساتها وكنائسها ومدارسها. لكن أيضاً لا تخلو من صور حسن نصرالله ونبيه برّي، خصوصاً كلما توغلنا نحو النبعة، حيث تزاحم تلك الصور أعلام “القوات اللبنانية” أيضاً.

كل هذا لا يختصر المشهد ولا هوية الفضاء العام. ففي كل مكان، بات واضحاً الحضور السوري بكثافة، سكناً وعملاً.

يقول “فوزي”، أحد سكان النبعة، لـ”المدن” إن “التنوع السكاني في المنطقة يتسم اليوم بغلبة الجالية السورية، وتحولت أحياء برج حمود والنبعة إلى تجمعات وعشائر على أساس الجنسية”. أضاف: “كان الحي هادئاً في الماضي، لكنه أصبح اليوم غريباً”. كلام فوزي يشبه مزاج معظم السكان اللبنانيين على تنوع مشاربهم: التوجس من الأعداد الكبيرة لمن يسمونهم “الغرباء”، أو السوريين.

مشكلة الأرمن وبقية اللبنانيين مع السوريين في برج حمود خصوصاً، وفي لبنان عمومًا، هي اعتبارهم للسوريين مسؤولين عما يحدث من مشاكل وأزمات تواجه أبناء المنطقة. “جاك”، الذي يعيش في المنطقة منذ 48 سنة، يقول “كانت برج حمود تعتبر تجمّعا للأرمن، بعدها بدأ السوريون في التوافد، واستولوا على محلاتنا وبيوتنا، بسبب قدرتهم على دفع مبالغ أعلى، وبالدولار”.

مبالغة جاك في كلامه، تنبع من تخوف حقيقي على “هوية” المكان ومن التحولات الديموغرافية التي تصيبه.

خلافات لبنانية أيضاً
ولكن هل يقتصر الوضع المتوتر على الحساسيات والخلافات مع السوريين فقط أم ثمة خلافات مشابهة وأكثر قدماً بين اللبنانيين أنفسهم؟

بين عامي 1946 و1947 سجّل الحضور الشيعي الأول في برج حمود، عقب الاعتداءات الاسرائيلية على البلدات الجنوبية الحدودية في بنت جبيل. منذ ذلك الحين تهجّر الأهالي إلى بيروت وسكن شيعة كثر بين العائلات الأرمنية، وتمدّدوا جغرافياً وتكاثرت أعدادهم هناك.

في هذا السياق، يقول علي، (يسكن في حي النبعة): “عندما قررنا السكن في برج حمود، كان الأمر صعباً جداً في البداية، البعض من الأرمن تقبلنا ورحب بنا والبعض الآخر رفضنا رفضاً قاطعاً”. ويضيف “مع الوقت بدأت الأمور بالتحلحل، وأصبحنا نتبادل تعليم بعضنا البعض لغاتنا. لكن في بعض المواقف يعود ويظهر التعصب الطائفي المدفون في النفوس”. في المقابل، يشدد “آرا”، الأرمني، أن ليس هناك حي يُدعى “النبعة”، بل اسمه “سيس”. ويقول: “لن ننسى المخيمات التي بناها أجدادنا هنا. إنها أرضنا وتاريخنا، ولن أسمح بمحو هذا الموروث”. ويضيف “كثيرون غادروا برج حمود بعد اكتظاظها بالشيعة والسوريين، ولكنني أنا هنا باقٍ، محافظًاً على بيتي ومحلي”.

يذكر أنه تم طرح مطالب بمنح حي النبعة استقلاله وتشكيل بلدية خاصة به خلال الانتخابات البلدية في العام 2016. ومع ذلك، فإن هذه الدعوات التي يتم تكرارها منذ العام 1992 لم تلق تجاوبًا من المرجعيات السياسية الشيعية، تجنباً للحساسيات ولعدم إغضاب الأرمن. بالإضافة إلى ذلك، فإن للشيعة مختاراً واحداً من بين مخاتير برج حمود الـ16 وممثلاً واحداً في البلدية.

تعايش وتحديات
تضم برج حمود أحياء شعبية، وتستضيف كتلاً بشرية متنوعة من مختلف الجنسيات والطوائف، أتت كموجات متلاحقة ومتلاطمة على امتداد أكثر من قرن. السكان “الأصليون” هم الأرمن الذين أتوا هرباً من المجازر التركية، ثم كانت موجة الجنوبيين الذين تهجّروا خصوصاً بعد نكبة فلسطين وانهيار الاقتصاد الجنوبي، وما شكلته العاصمة الناهضة منذ منتصف الخمسينات من عوامل جذب للنزوح من الأرياف باتجاهها، إضافة إلى أقلية من الأكراد الذين وفدوا على مراحل. ثم شهدت برج حمود-النبعة أبان الحرب (1975-1990) تهجيراً لمعظم السكان الشيعة، ليأتي إليها المهجّرون المسيحيون من الدامور خصوصاً، قبل أن يعود قسم كبير من الشيعة إليها بعد انتهاء الحرب.

مع بداية إعادة الإعمار، بدأت تشكل برج حمود ملاذاً لنوع جديد من المهاجرين، هم العمالة الأجنبية من مختلف الجنسيات الأسيوية والإفريقية.

منذ سنوات، يزداد الإقبال على السكن في برج حمود خصوصاً من ذوي الدخل المحدود والفقراء، في ضوء انخفاض أسعار الإيجارات فيها، وتوفر فرص العمل نسبياً. هذا “الخليط” الكبير والمحشور باكتظاظ عالٍ في هذا الحيز الجغرافي الضيق، لا بد أن ينجم عنه الكثير من التوترات والحزازات والمشاكل اليومية.

يشير المختار آغوف أزنفوريان إلى أن “الأحياء الشعبية لا تخلو من المشاكل، وبرج حمود، كسائر المناطق الشعبية، تتخللها بعض المشكلات في بعض الأحيان”. وبخصوص المعاملات الرسمية، يؤكد أزنفوريان أن “المختار يعمل من أجل الكل وليس لطائفة أو جنسية معينة. وبالتالي، أنا أمارس مهنتي مع كل شخص نظامي ومطابق للقانون من أي جنسية أو طائفة كان، لكن إذا كان لبعض الناس حساسيات تجاه الموضوع فهذا أمر آخر”.

يقطن في برج حمود حوالى 170 ألف نسمة، منقسمون بين 35 ألف نسمة من التابعية السورية، والبقية من العمال القادمين من إثيوبيا وسريلانكا والسودان ومصر والعراق، بالإضافة إلى الأكراد وجنسيات آسيوية أخرى. وحسب مسؤولة مكتب التنمية في بلدية برج حمود، غاريني باليان، “كنا نشهد في البداية مشاكل بين الجنسيات المختلفة في برج حمود، ولكن تدريجياً بدأ السكان بالتعايش والتعود على بعضهم البعض وتقلصت المشاكل بشكل كبير، ولكن لا يخلو الأمر من بعض النعرات”.

الملاذ التاريخي للاجئين، يشهد في الآونة الأخيرة تصاعدًا في التوتر بين المجموعات المتنافرة، وكل مجموعة تشد أزر بعضها البعض، خصوصاً في سعيها المتزاحم إلى لقمة العيش. وفي ظل الوضع المعيشي الذي يعاني منه معظم مواطني لبنان والمقيمين فيه، لا غرابة في أن يؤدي كل هذا إلى الكثير من الصدامات والمشاجرات التي لا تخلو من استحضار للغة الطائفية أو العنصرية.

المدن

مقالات ذات صلة